يلحظ المتابع للحركات الإسلاموية المعاصرة أنها تعاني من أزمة حقيقية تتمثل في غياب أنموذج الدولة الراشدة في نظرهم, فمنهم من يرى أن الدولة الراشدة ينبغي أن تتمترس خلف مفهوم الدولة الدينية الصرفة, وآخرون يرون ضرورة العودة لاستنساخ شكل الدولة الإسلامية الأولى دون أي اعتبار للزمان والمكان والتغير الذي طرأ على بنية المجتمعات الإنسانية. وبقدر ما نجح الإسلامويون في تدبيج الشعارات البراقة التي تلامس أفئدة البسطاء إلا أنهم لا يملكون برنامجاً سياسياً واضحاً قادراً على إيجاد حلول برغماتية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية ومنظومة العلاقات مع الدول الأخرى. من هنا ظل شعار (الإسلام هو الحل) شعاراً براقاً يحمل عموميات مموهة لا تدعمه أجندات عملية قادرة على طرح شكل الدولة المفترضة. الحركات الإسلاموية بمجملها, ومن ضمنها الحركات المولودة من رحم (جماعة الإخوان المسلمين) الأم, عانت كثيراً في سبيل الوصول إلى إقناع المواطن البسيط بجدية ما تطرحه من شعارات وعبر تاريخها الطويل. «الإخوانيون», والملالي في إيران بارعون في نسج الشعارات, وتدبيج العبارات الإنشائية, فمن (الإسلام هو الحل) مروراً بمقولة الهضيبي (دعاة لا قضاة) وانتهاء بشعارات (الشيطان الأكبر) مقابل «محور الشر». الذي يعنينا هنا التأكيد على أن أنموذج الدولة الدينية التي ينادي بها هؤلاء أنموذج هش وهلامي, ولا يحقق معنى الدولة الرشيدة. فدولة (طالبان) والتي يعدها البعض أنموذجاً للدولة الحلم, كانت على امتداد السنين التي حكمتها مثالاً «كوميديا» للدولة الدينية التي أعادت أفغانستان -المتخلفة أصلاً- مئات السنين إلى الوراء, عطلت الجامعات والمدارس والمستشفيات, وألغت تعليم المرأة, وقدمت صورة مشوهة للإسلام كدين يدعو إلى العدل والعلم والتطور وحفظ كرامة الإنسان, بحيث رأينا (رجال الحسبة الطالبانية) وهم يذرعون الأسواق والشوارع حاملين هراوتهم وعصيهم ليهووا بها على رؤوس الرجال من حليقي اللحي, ومؤخرة النساء تحت أي ذريعة.
وعلى الجانب الآخر لم تستطع دولة الملالي أن تقدم نفسها بصورة تجعلها أنموذجاً يحتذى, فقد بدأت عهدها بحمامات من دماء الإيرانيين من خلال محكمة (الخلخالي) الشهيرة, والسعي إلى تصدير الثورة, والتمترس خلف المذهب الواحد والعرق الواحد في بلد متنوع المذاهب والأعراق, وبرغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على نشوئها وبرغم ثرواتها النفطية والزراعية الضخمة فإن ثلث السكان يقبعون تحت خط الفقر, ناهيك بالطبع عن العزلة الدولية والعلاقات المتوترة مع الدول.
هذان مثلان معاصران لشكل الدولة الدينية التي ينادي بها «الإسلامويون» اليوم. ولعل الملفت أن حركات الإسلام السياسي والتي عادة ما تكفر النموذج الغربي في أدبياتها فإنها لا تجد غضاضة في ولوج لعبة الانتخابات ما دامت تحقق أهدافها في الوصول إلى سدة الحكم, (وحماس) الإخوانية مثالاً لذلك, فما إن اختارها الناخب الفلسطيني بغية إنقاذه من فساد أجهزة السلطة الفلسطينية, وبتأثير من شعاراتها وأعمالها الخدمية والتي لم تكن في الواقع إلا طعماً لاصطياد «كرسي الحكم», وحين رأت أن سلطتها مهددة بالزوال أو الانكفاء شنت هجومها المعروف في مشاهد لم تزل راسخة في وجدان كل فلسطيني وعربي شريف, من تكبيل المناضلين بالسلاسل وجرهم في الشوارع. هو ذا منطق الفكر الإسلاموي. «الحركات الإسلاموية», وبقدر تظاهرها بالنقاء والطهر والإيمان, إلا أنها لا تتورع في اقتراف أي جرم يوصلها إلى مبتغاها, فالمفهوم الميكافيلي حاضر في أجنداتها «الغاية تبرر الوسيلة». من هنا فإننا نستطيع أن نقول بتجرد إن مفهوم الدولة العصرية القائم على التعددية واحترام حقوق الإنسان والأديان والاعتراف بالآخر, وتقديم برامج واضحة تفضي إلى تحقيق العدل والرخاء والازدهار للمواطن.. هو مأزق (الإسلامويون) الحقيقي, إذ لم يعد أحد يراهن على قدرتهم في تسيير شئون البلاد والعباد, حتى ولو رفعوا شعار «الإسلام هو الحل» لأنهم ببساطة لم يقدموا ما يجعلنا نصدقهم أو نثق في قدرتهم على تقديم نموذج سوي ومتطور لشكل الدولة الراشدة.
alassery@hotmail.com