علاقة الشرق الإسلامي بالغرب المسيحي علاقة أممية قائمة على الندية السيادية والتنافس الحضاري وفق سنة (التدافع) المرتبطة بالأسباب الكونية، وهي علاقة متجذرة في التاريخ الإنساني،
كونها تمتد ماضوياً لأكثر من 14 قرناً، حينما كانت كتائب الإيمان تدك معاقل البغي والطغيان بمشاعل الهداية ومعاول السلم والإحسان، فتم خلال فترة قياسية تحرير شعوب مقهورة وأمم مغلوبة من نير الدولة البيزنطية (المسيحية) والدولة الفارسية (الوثنية) في قارتي آسيا وإفريقيا وجزء من أوروبا، ثم تطورت هذه العلاقة إلى تصادم عسكري متبادل ومستمر بين الأمة الإسلامية (الشرقية) والأمة المسيحية (الغربية)، فكانت اعتداءات الروم البيزنطيين على الثغور الإسلامية أيام العباسيين، وكذلك الحملات الصليبية التي جرت خلال الفترة (1095 ـ 1291م)، وما تخللها من هزيمة الفرنجة على يد المماليك في معركة المنصورة عام 1250م، وكذلك الحروب العثمانية في غرب القارة الأوروبية والفتوحات في شرقها.
بين طيات هذه العلاقة الدموية المضطربة نشأت فكرة غزو العالم الإسلامي (ثقافياً وفكرياً)، خاصةً بعد انتصار المماليك على الفرنجة وأسر الملك لويس التاسع وسجنه في القلعة، الذي بث هذه الفكرة الجهنمية، من خلال رسالة بعثها إلى ملوك وأمراء أوروبا يحثهم فيها على تغيير أسلوب التعامل مع المسلمين، مشيراً إلى أن الأسلوب العسكري غير مجدٍ لأنه غير حاسم، وأن أحداث التاريخ أثبتت أن المحن التي تصيبهم تصبح منح تشد عودهم.
من هنا بدأت تتشكل علاقة المسلمين بالغربيين في مسارات أخرى كان (التغريب) علامتها الفارقة، الذي كان يتم على ثلاثة محاور رئيسة الاستشراق (دراسات تاريخ الشرق الإسلامي)، والتنصير (التبشير)، والغزو الفكري (الثقافي)، فكانت حملة نابليون بونابرت (القائد الفرنسي الشهير) إلى مصر عام 1798م هي أولى الخطوات التمهيدية لهذا الغزو الذي اندس في أوساط الأمة، من خلال استعارة كل العناصر الثقافية والفكرية والفلسفية الغربية التي تشكل منظومة القيم الاجتماعية، ومن ثم صياغة كل العلاقات الإنسانية وفق المنهج الغربي القائم على مرجعيات علمانية ومادية ووثنية وليس وفق المنطلقات الإيمانية والمرجعية العقائدية الإسلامية، خاصةً العلاقة بين الرجل والمرأة لأنها هي أساس كل العلاقات الإنسانية.
وعندما نتحدث عن (التغريب) فليس ابتداعاً أو فكرة مختلقة كما يزعم أنصاف المثقفين، فالتغريب حقيقة تاريخية بشهادة الغرب نفسه، فهذا المستشرق الإنجليزي (جب) صاحب كتاب (إلى أين يتجه الإسلام) يقول: من أهم مظاهر سياسة التغريب في العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة) بل يعترف في كتابه أن الهدف من بحثه هو معرفة إلى أين وصلت حركة التغريب في الشرق الإسلامي، ومعرفة العوامل التي تعوق حركة التغريب (انتهى)، لذلك من يتتبع المسار التاريخي للتغريب يجد أنه بدأ (مادياً وإنتاجياً) ثم تحول (فكرياً وثقافياً)، بمعنى أنه بدأ مع احتكاك المسلمين في القرن الثامن عشر الميلادي بالحضارة الغربية الناشئة، من خلال استيراد المنتجات المادية والوسائل الإنتاجية والنظم الإدارية، ثم تحول إلى استيراد الأفكار والقيم الحضارية، لهذا يخلط بعض مثقفينا بين (التغريب) و(التمدن)، فالأول يهتم بسيادة القيم والأفكار الفلسفية العلمانية، بينما الآخر يتمحور حول الاستفادة من المنتجات المادية والوسائل الإنتاجية.
يمكن القول إن حركة التغريب في طورها (المادي والإنتاجي) قد بدأت مع اهتمام المسلمين بتطوير نظمهم الإدارية وتحديث جيوشهم العسكرية، فمحمد علي باشا حاكم مصر قام ببناء جيش نظامي على الطراز الأوروبي، عام 1805م، مع محاولته إقرار مشروع نهضة يحاكي التجربة الغربية، والسلطان العثماني محمود الثاني قضى على الانكشارية عام 1826م وأمر بجيش نظامي يتخذ الزي العسكري الأوروبي تبعه السلطان عبد العزيز بفترة قياسية حيث أدخل العادات والأفكار الغربية إلى السلطنة، ومع عودة المبتعثين العرب من أوروبا بدايةً من عام 1830م تحول مسار التغريب إلى الشأن الثقافي والفكري، فقام هؤلاء المبتعثون بحملة ترجمة كبيرة للإنتاج الفلسفي الغربي ومن ثم طرح إنتاجهم الفكري القائم على موائد الاستشراق، كما وجدت عام 1852م كلية الفنون والعلوم الغربية في إيران، وفي عام 1860م بدأت حركة التغريب في لبنان والشام عن طريق الإرساليات التبشيرية (التنصيرية)، ومنها امتدت إلى مصر زمن الخديوي إسماعيل. فصدرت المجلات ودور النشر التي تسوق للقيم الغربية والأفكار القومية وبعث الحضارات القديمة في كل بلد عربي، كالحضارة الفرعونية في مصر والفينيقية في لبنان والبابلية في العراق وغيرها في مقابل الافتراء على الإسلام والتشكيك والطعن بالحضارة الإسلامية، خاصةً بعد سيطرة دعاة القومية الطورانية في تركيا عام 1908م والقومية العربية في الأقطار العربية وهما صدى للقومية في البلدان الغربية.
واليوم تتطور حركة التغريب مستندة إلى وسائط التقنية الحديثة الفعالة كالإنترنت والتلفزة الفضائية، فضلاً عن الصحافة.
إذاً تكمن خطورة (التغريب) بأنه يخترق منظومة القيم الاجتماعية للمسلمين المرتبطة بالمرجعية الإسلامية العليا، ومن ثم إذابة تلك القيم ببوتقة العصرانية المادية والمدنية المتحررة، بحيث يصبح الخلط قائماً لدى الوعي الجماهيري للأمة وبالذات عند الكتاب والمفكرين وأصحاب الرأي، خلط بين مفهومي (التغريب) و(التمدن) كما سبق الإشارة، لهذا يستنكر بعض المثقفين رفضنا التغريب بحجة أننا نقتبس من الغرب التقنية والعلوم والإدارة وغيرها، وفات عليه أن منتجات الحضارة وعلوم الكون هي مشترك إنساني وتراكم حضاري، فهناك فارق كبير بين أن تستورد أجهزة تلفزيونية من الغرب، وبين أن تبث خلالها برامج ماجنة وأفلام إباحية تكرس لقيم فاسدة علاقات اجتماعية متحررة من ضوابط الشرع وأخلاقيات المجتمع.
Kanaan999@hotmail.com