ناقشت العام الماضي: هل بدأت حركات الإسلام السياسي الأصولي بالانحسار؟ لعل الإجابة حُسمت بالأشهر التي تلتها، وانبثق سؤال آخر: هل بدأ الإصلاح الفعلي داخل هذه الحركات وبدأت مرحلة «ما بعد الإسلام السياسي»؟........
مقالة السنة الفائتة تطرقت لانحسار هذه الحركات الأصولية، الذي بدأ منذ الانتخابات الأردنية عام 2007، أعقبها تراجع ملحوظ لمرشحي الطائفية والأحزاب الدينية بالعراق في الانتخابات المحلية والبلدية.. ثم تراجع حاد للإسلاميين في انتخابات الجزائر والكويت.. وحتى خارج المنطقة العربية كنا شهدنا تراجعاً واضحاً للتيارات الدينية الأصولية في أكبر دولتين إسلاميتين: إندونيسيا وباكستان.. وذكرت أن علينا الحذر من سرعة الاستنتاجات، وأن نراقب الشهور الآتية المليئة بالانتخابات العربية.. وقد أتت النتائج لتؤكد استمرار هذا التراجع، وإن كان بدرجات متفاوتة.. وكثرت المقالات السريعة التي أعلنت بداية نهاية تلك الحركات.
هذا التراجع لم ينحصر في المجال السياسي، بل امتد إلى مجالات عديدة مما جعل الإسلاميين الأصوليين يواجهون تحديات جسيمة في حربهم الإعلامية. ولم يقتصر هذا التحدي على مواجهة القوى المنافسة خارجها، بل برز مؤخراً تحد كبير أشد وطأة متمثلاً بظهور تيار معتدل وإصلاحي داخل الحركات الإسلامية والمؤسسات الدينية سواء الرسمية أو غير الرسمية. وقد سجل هذه الملاحظة العديد من الدراسات والتقارير المتخصصة.
صدرت بفبراير الماضي دراسة مشتركة بين المعهد الأمني للاتحاد الأوروبي والمعهد الأوروبي للبحر المتوسط بعنوان «لماذا يجب على أوروبا التعامل مع الإسلام السياسي» لعمر الشباكي وجيما مارتين مونوز، جاء في مقدمته أنه بالوقت الحاضر بدأ صناع القرار والمحللون في أوروبا ينسجمون مع فكرة اندماج الإسلاميين الأصوليين في العلمية السياسية في بلدانهم، ومن ثم الدخول معهم في تفاهمات، لكنه جاء متأخراً وسيكون تأثيره ضعيفاً لأن حركات الإسلام السياسي تراجعت وأصبحت عاجزة عن الاستجابة للتطلعات الأساسية للشعب، فيما نجح الإسلاميون المعتدلون في تهميش بل وحتى هزيمة الإسلاميين المتطرفين، لكنهم يواجهون خيبة أمل فعلية من الناخبين وعدم مساندة الآخرين، حسب الدراسة.
ويطرح العديد من الباحثين، أمثال (Sunny Tanuwidjaja; ;Amr Elshobaki; Shatha Juburi; ؛ سامي شوشر)، أسباباً مختلفة لهذا التراجع؛ بل أصبحت هناك مواقع بالإنترنت للاستفتاء حول أسباب تراجع وانحسار الإسلام السياسي. ورغم كثرة الأسباب المطروحة وتفاوتها حسب ظروف كل بلد، لكنها تكاد تتفق على سببين اثنين، هما: أن هذه الحركات لم تقدم أية حلول للمتطلبات الأساسية للجماهير.. وأنها أججت الفتنة الطائفية والفئوية داخل بلدانها.
أساس فكرة الانحسار ليست وليدة هذه السنة، فمنذ أوائل التسعينات أشار بعض الباحثين الفرنسيين مثل جليز كيبل وأوليفر روي إلى أن انحسار الإسلام السياسي على وشك الحدوث، خاصة بعد أن أصدر الباحث الأخير كتابه «فشل الإسلام السياسي» سنة 1993، مرجعاً ذلك إلى فشل الهدف الأساسي للحركات الإسلامية وهي إقامة الخلافة الإسلامية. ولكن الذي حدث آنذاك هو تنامي صعود حركات الإسلام السياسي الأصولي وانتصاره في كثير من الانتخابات، ولم يبدأ الانحسار إلا عام 2007 وتواصل بشكل تراكمي، مما أعاد للأذهان كتاب روي.
والآن، لم يعد السؤال ما إذا كانت حركات الإسلام السياسي الأصولية في انحسار، بل ماذا بعد ذلك، أو ما أطلق عليه البعض «ما بعد الإسلام السياسي»؟ أهم ملاحظة هي ما أشرت له من ظهور إصلاح داخل تلك الحركات، بدأت تطرح الخيارات الضرورية الصعبة في التطور الداخلي ومسألة التعايش مع الدولة الحديثة (دولة المؤسسات والقانون) ومفاهيم المواطنة والمجتمع المدني وما تشمله من حقوق وحريات.. وهنا يطرح بعض الإصلاحيين الإسلاميين تجربة العدالة والتنمية التركي نموذجاً للتطور الطبيعي في مسار الإسلام السياسي المعتدل.
هذه التطورات داخل الحركات الإسلامية غيرت المشهد السياسي والفكري وصارت حركات إسلامية تتحالف مع أحزاب وطنية ليبرالية وعلمانية كما في العراق مثلاً.. حتى أن أحد أكبر التجمعات السياسية الذي كان يظهر بمظهر ديني في العراق أطلق على نفسه دولة القانون! لقد بدأ تحول في مسار الصراع الأساسي إلى داخل تلك الحركات فيما كان سابقاً مواجهة بين التيارات الدينية والتيارات المدنية (الدنيوية).
لم تكن الساحة الفكرية السعودية بمنأى عن تلك التطورات.. فلم يعد الصراع الفكري مقتصراً على ثنائية سلفي/ حداثي أو ليبرالي/ صحوي، بل شمل أيضاً إسلامي/ إسلامي أو سلفي قديم/ سلفي حديث. وصرنا نشاهد ثنائيات جديدة كالغامدي/ السعيدي والبراك/ الغيث. لذا نُشر في الأسبوع الماضي تقرير لرويترز (سهيل كرم) عن ظهور انقسامات فكرية بين الإسلاميين. وكذلك في صحيفة عناوين الإلكترونية ظهر تقرير لتركي العبد الحي عن دخول المعترك الفكري السعودي في مرحلة جديدة وبات صراعاً داخل الصف الإسلامي. حيث أصبحت رموز إسلامية كبيرة (مثل أحمد الغامدي، محمد الأحمري، عيسى الغيث، سعود الفنيسان، حاتم الشريف..) تتحدث عن المجتمع المدني والديمقراطية ومخاطر الاستبداد وعن المساءلة والشفافية، ما جعل كثيراً من الكتاب السلفيين ينتقدون ما أسموه «السرطان المدني» أو الاهتمام بالعمران المدني وترك المسألة الأخروية.
وبذات الأسبوع فصَّل الناقد الواعد سلطان العامر في منهج الكاتب الصحوي إبراهيم السكران موضحاً أن «شدة السكران على التنويريين والحقوقيين (الإسلاميين) أشد بكثير من شدته على الليبراليين والعلمانيين.» بل إن السكران نفسه اشتكى من أن وطأة الإصلاحيين الإسلاميين على الصحوييين أشد من الليبراليين والعلمانيين! وفي ذات السياق ذكر الكاتب والناشر عادل الحوشان أن الذي يحدث الآن هو خلاف بين رموز إسلامية بسبب آراء فقهية جديدة تتطلبها المرحلة جاءت من داخل التيار الإسلامي ومن داخل مؤسساته..
يمكن الاستنتاج من خلاصة المشهد العربي العام أن قوى الإصلاح والتنوير داخل الحركات الإسلامية قد ملَّت من حيادها الهامشي ونضجت وحان قطاف دورها لمواجهة قوى التشدد داخلها لأنها تسكن في الماضي وغير قادرة على التعايش العصري لا مع المجتمع المدني ولا الدولة الحديثة وتنسى مصالح الجماهير الأساسية، فغالبية المجتمعات العربية مع الاعتدال الديني المرتبط بقضاياها الكبرى وهمومها اليومية (عمل، تعليم، صحة، إسكان..)، الذي يتعامل مع الأفكار الجديدة من منطلق متسامح محترماً كافة التيارات الوطنية الأخرى بلا تكفير ولا تخوين.. والمنفتح على التحديث والتطور الطبيعي للمجتمعات..
alhebib@yahoo.com