طُرح عليّ ذات مرة سؤال حول كيفية الاستفادة من المتقاعد، فقلت إن السؤال سديد وإن لم يكن طرحه جديداً، فاستثمار وقت المتقاعد أمر وارد جداً، شريطة أن يملك هو (مخزوناً) من الخبرات والمعارف الثمينة في حقل من الحقول، إلى جانب الإرادة والعزم اللازمين لذلك.
- هذا يقودني إلى طرح اقتراح للتأمل من قبل وزارة الخدمة المدنية والمؤسسة العامة للتقاعد وجمعية المتقاعدين، أملاً في أن يتطوع أي من هذه الجهات بتحقيقه، ويتلخص في إنشاء خدمة يُحصَر من خلالها المتقاعدون، اسماً ومؤهلاً وتخصصاً وسناً وخبرات وجهات عمل ممن يتوسم في حصادهم الصلاح والنفع للبلاد، وتكوَّن نتيجة ذلك قاعدة معلومات إلكترونية متطورة يمكن تخزين المعلومات من خلالها تخزينا أمينا يُستدعَى أي جزء منها بمرونة ويُسر لغرض من الأغراض، سواء من قبل أي قطاع في الدولة أو إحدى فعاليات القطاع الخاص.
- والحق أقول إن هناك كفاءات ترجلت من قطار الوظيفة في أوقات وأماكن متفرقة ليسيح بعض أفرادها في الأرض بلا هدف ولا عمل، مع توفر قدر كبير من (الوقت الضائع) يمكن استثماره فيما يفيد، ناهيك عن سُقم القول بأن التقاعد.. ليس سوى (أريكة) للاسترخاء والنوم العميق بعد عراك السنين، في حين أنه في معناه المهني والإنساني يعني الانتقال من حال إلى حال آخر، واستئناف (الركض) في مسارات الحياة لمن أُوتي القدرة والعزم والفرصة الملائمة لاستثمار ما تراكم لديه من خبرات ومهارات وفنون أداء، هذه هي (الراحة) الحقيقية، التي تتيح لمسامٍ الروح والعقل فُرص تجديد خلايا الإبداع فيها، واكتساب الشعور بالقيمة والجدوى، نفسياً واجتماعياً، والمتقاعد في التحليل الأخير، حزمة من القدرات، إلا ما ندر، وليس قطعة من أثاث عفا عليها الزمان وعافها!.
(2)
- عاصرت المرأة العسيرية في ربيع طفولتي وهي تُكمل مسيرة الرجل، وتُقيل عثرته، وتُسدد خُطاه، وقد تنوب عنه في غيابه استقبالاً للضيف وإكراماً له، دون أن تتعرض لشبهة في الحشمة أو تفريط في العفاف! أجل كانت المرأة العسيرية جزءاً لا يتجزأ من معادلة البقاء اليومي للأسرة، كانت ترعى الغنم وتعمل في المزرعة حرثاً ورياً وحصاداً، وتجلب الماء من البئر والحطب من الجبل وتنظف المنزل وتغسل الثياب وتذهب إلى السوق تبيع أو تشتري، وتعد الطعام وكانت تتزوج وتنجب وترضع وتربي، وتشارك في أفراح الأسرة وأتراحها!.
- نعم.. كانت العمالة في سالف عصرنا يسيرة ميسرة قوامها أهل الدار، بدءاً بشيخها، مروراً بشبابها، وانتهاءً بنسائها وأطفالها، وكانت العمالة، ناعمها وخشنها، تعمل جنباً إلى جنب بمحبة وتضحية وصبر جميل، وحين كنت طفلاً في مزرعة جدي رحمه الله، كان من بين مهامي (الفلاحية) طرد الطير حماية للمحصول الموسمي، بُرّاً أو شعيراً أو ذرة، من عبث العصافير الجائعة، وكانت سيدتي الوالدة رحمها الله تقف أحياناً إلى جانبي كي تعينني على أداء هذه المهمة، وتمنحني بحضورها ودعائها وحنانها قوتاً من الحب والثقة والإيمان! حتى الأفراح، كان أهل الريف رجالاً ونساء وأطفالا يمارسون طقوسها في الهواء الطلق أو داخل البيوت في عِفّة وطُهر وجمَال!.
- اليوم.. تبدّلت كثير من أحوال المرأة السعودية، العسيرية وسواها، في بعض مدن المملكة وقراها، وفُوِّضت الخادمة الأجنبية جلَّ مهام الأمس، وأصبح (دخول المطبخ) عند البعض (تابو) اجتماعياً يكاد يُقرن بالعيب!.
- تقولون: إن الزمان قد تغيّر، وتغيرت معه (ثقافة) العيش وضوابطه وأوامره ونواهيه، وأقول: لا أدري هل غيّرنا الزمانُ أم غيّرناه نحن، ولن أمارسَ (شعوذة) الظن بالدعوة للعودة إلى ما كان! ولكنني أدعو إلى وقفة صادقة من التأمل والعبرة والذكرى!.