لو لم أكن مسلماً، وأردت انتقاء أفضل النظم المدنية، والمبادئ المؤسسية - إن صح التعبير - للرقي بالمجتمع، وتوفير الجوامع والموانع الحصيفة، وبلا دوافع قبلية أو إقليمية أو ذاتية، أو ما هو أهم للنص عليه: أي بدون قيود وحدود وعراقيل ودافع مذهبية أو طائفية مما يحلو للساسة العبث بها، وإنما بتجرد إنساني يحاول
الأخذ بالمثالية ما أمكن إلى أقصى حدود المستطاع، والهدف النقي هو إسعاد كل الإنسانية وإقامة العدل فيما بينها، عولمة نقية.
لو لم أكن مسلماً، ولكني صاحب مبدأ حق وعدل وإنصاف أنشد البحث عن هذه في منابتها لاخترت طائعاً مختاراً إثر تجربة وخبرة وعلم وفهم - لا أدّعي بكبرياء أني أمتلك زمامها - لأني باقتناعي الشخصي لا أجد أفضل مما وجدت إثر بحث وتنقيب وتدقيق وتحقيق وتقليب للأمور على مختلف الوجوه والأحوال أقول عن سابق تصور لعل نصيبه من وضوح الرؤية وافر، لو كنت غير مسلم لاخترت الإسلام لا كما يطبقه أو يشوه نصوصه وتاريخه بعض المسلمين وإنما كما هو في مبادئه وتعاليمه وسيرة من أرسل به.
الآيات المحكمة، والأحاديث الصحيحة، والسيرة النبوية الموثقة تحث المخلصين في تبني أنظمة مجتمع مدني على انتقاء الإسلام كأحكم وأجود نظام يحقق للجميع دون استثناء كل أصناف الإنصاف المتدرج حسب لوازمه وعوامله وأفضل مقتنيات أحواله ومتطلباته بين بني آدم الذين كرمهم الله سبحانه.
لو لم أكن مسلماً، فعقب دراستي له نظرياً وتطبيقياً من صادق متبعيه سأطالب به نظام حياة لي ولغير المسلمين وللمسلمين، وللمرأة قبل الرجل، وللطفل والشيخ وللفقير والثري وللإنسان والحيوان والشجر والحجر وللفرد والمجتمع وللدولة والقارة والعالم في كل الأنظمة كالاقتصاد، وحقوق الإنسان وعلاقات الدول حتى في بلدي إن كان غير مسلم سأطالب بتطبيقه بصفته من أفضل أنظمة المجتمع المدني.
سأجد حالي إن لم أكن مسلماً كحال المسلم وأكاد أقول أحسن في الحقوق والواجبات الحياتية، والعلاقات الإنسانية وسأكون وأسرتي في ظل النظم الإسلامية أفضل حالاً مني في ظل كل النظم الأخرى المتسمة بالدين أو المتبنية لنظم دنيوية كالرأسمالية والشيوعية و العلمانية والليبرالية المزعومة الموهومة.
في الإسلام المتقن الذي لا شائبة دُسّت فيه أو عليه لا إفراط ولا تفريط إن اعتنق كما هو لا كما يزعم الزاعمون.
يمكن أن يطلق على الإسلام كصفة بارزة من سماته وصفاته «المحامي» فهو حامي ومحامي من لا محامي له، وهو محام أفضل من محامي من له محام. لو حكم الإسلام سياسة وإدارة لصلحت الدنيا بأسرها، لكن الشياطين لها أيضاً وجود ممانع.
إن اليهودي والنصراني وغيرهما - إذا طبق الإسلام بدقة وصدق سيجد الناس عدلاً وسعادة لا توجد حتى لدى ذويهم وأفكار مفكريهم إذ قوانين الإسلام الكلية والجزئية مدروسة بعناية، وبحكمة ربانية، يلمس حتى غير المؤمن أحكامها وانتظامها وانضباطها في تحقيق ما يريده المرء العادل دون إلحاق أذى بالآخرين، بل قد يستمتع بإسعاد الآخرين كجزء من نظام حياته الذي اختاره واصطفاه. والتوازن ميزان مهم في نظم الإسلام فقبل الاسعاد يجري التحوط من عدم إشقاء آخرين على نحو ظالم.
لو لم أقتنع بالإسلام ديناً لاقتنعت به - بعد أن درسته - نظام حياة للمجتمع المدني وسأنتقيه من بين مختلف أنظمة المجتمع المدني إلا إذا أعماني الهوى والتعصب بشتى أطراف إخطبوطه، لا أقول هذا الآن بدافع وجداني إيماني عقدي وإنما بدافع عقلاني صرف ودنيوي بحت لصلاح الدنيا وعمارة الأرض.
الذين يريدون الفساد في الأرض لدوافع أنانية أو شهوات إجرامية هم الذين لا يقبلون بالإسلام كأفضل نظام يحقق للجميع الخير والحب والسلام و الاحترام.
إذا كنت كمسلم في بلد غاليبته غير مسلمة، بريطانيا مثلاً، لن أطالب بأن يكون الحكم فيه حكماً إسلامياً - رغم أني أتمنى ذلك - لكن ليس من المنطق المنصف هذا المطلب المثير للإحَن والفتن.
والأقليات غير المسلمة في بلد أكثريته مسلمة لا تكون محقة ولا منطقية تعرف ما لها وما عليها إن اعتبرت من العدل أن تكون الحاكمة، لكن إذا حكمها الإسلام الصحيح فستكون في حال لا يفضلها مختلف الأحوال.
فالأقباط مثلاً إذا حكمت مصر بحكم اسلامي سليم فسيكون هذا الحكم أفضل لمعيشتهم وأحوالهم من لو حكموا أنفسهم، منطق غريب.. لكنه صحيح، وهكذا مع بقية الأكثريات والأقليات مع الحكم بالإسلام كنظام مدني لا يقارن ببقية الأديان من حيث المضامين و الأهداف وإنما يقارن بنظم الحياة المدنية ليضحي ويسمي هو الأجدى سلباً وإيجاباً للجميع، حفظ حقوق دون إضاعة لحقوق الآخرين غير الشاطحة في ذاتيتها وأنانيتها. العلمانية لا تحقق المساواة لأنها لا تحوي ما يردع ويخيف أهلها في الحياة أو ما بعدها بثواب أو عقاب على الظلم والبغي.
ومن النظرية إلى التعزيز بالأمثلة:
فالطوائف والفرق النصرانية في كنيسة القيامة بالقدس كلها أجمعت على أن تكون إدارة ا لكنيسة بيد المسلمين لعدة اعتبارات منها: حيادية المسلمين، وإيمانهم بالأديان السماوية، واحترامهم لحقوق الآخرين وتطبيق العدل فعلياً بدليل اختيارهم ممن ليسوا منهم.
والصرفية الإسلامية بدأت بالانتشار في غير بلاد الإسلام وقطعت شوطاً بعيداً وسيراً حثيثا للأخذ بها في عالم الاقتصاد الدولي. وبالمناسبة الاقتصاد ونظمه بكل تفصيلاته ليس من مبادئ وإرشادات الأديان ما عدا الإسلام الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة، ولا شاردة ولا واردة إلا أوجد لها حكماً مباشراً أو قياساً على حكم مماثل أو مشابه في معظم عناصره.
والإسلام عند من يفهمه ولا يأخذه من كل من يدعيه ويقصر أو يغلو فيه، يفرط أو يفرط فيه، الإسلام في نظمه الإدارية المتنوعة و الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية والعلاقات الإنسانية نظام مدني (رباني) لا يجوز لمحدودي الاطلاع والاستيعاب والإحاطة أن يقولوا مثلاً: على الجماعات والشعوب الإسلامية أن تعلن قبولها بنظام أو أنظمة المجتمع المدني، والتخلي عن تطبيق الدين في الحكم، هذا جهل مغرق بحقيقة الإسلام لأنه ليس كله طقوساً ولا شعائر إنما هو أيضاً نظام مؤسساتي مدني، سياسي، إداري، قضائي، إصلاحي، تنموي، اجتماعي، إنساني من مصلحة غير المسلم قبل المسلم أن يكون هو موجه سفينة البشرية في بحار الحياة الدنيا.
أما الآخرة وما بعد الموت فذلك شأن آخر.
الإسلام عند غير المسلمين - إذا كانوا متجردين للحقيقة - سيعتبرونه نظاماً مدنياً أكثر منه ديني لأنه لا يقف من الأديان الأخرى موقف المعادي، فالعداء ضد ما ورد في القرآن والحديث وسلوك نبي ورسول الإسلام.
لقد عرف عن الإسلام في تفصيلاته أنه (دين ودنيا ودولة) ثلاث دالات لا نفصم عن بعضها، وإلا صار ناقصاً، وربما أدى النقص العظيم إلى غياب وفقدان الدين، انعدام الإسلام كإسلام تام.
ولذا عندما يحكم الإسلام لا يمكن قبول وصف الدولة ب «الثيوقراطية» أو استحضار هذا المعنى غير المطابق لموصوفه، أي أن الإسلام في نظر البعض - كالأديان الأخرى - دين طقوس وشعائر فقط حسب المفهوم الغربي الصليبي المعلب لنا بمعنى لا يتفق مع الحكم إذا كان حقاً إسلامياً بكل أبعاده وجوانبه. كما أن فصل الدين عن الدولة ممكناً ومن يقولون بذلك محقون في معرفة واقع أديانهم التي لا تصلح لحكم الآخرين لعدم تضمنها قواعد وأسس من بين تعاليم ومبادئ دياناتهم، ولذا نشأت مبادئ فصل الدين عن الدولة دون إحساس بالإساءة إلى الدين «ما لله لله وما لقيصر لقيصر». إلا الإسلام وبين المسلمين، وهو لا يضر بغير المسلمين بينهم، بل فيه إنصاف منصوص عليه ونفع شامي متبادل، لأن المسلمين إذا انفصل الدين عن الدولة انفصلوا عن الدين، نعم.. انفصلوا عن الدين بوضوح صريح لا بتلميح وتلويح، بل وعارضوه وتخلوا عنه رغم أن نظمه الإدارية والسياسية المتنوعة والاجتماعية هي نظم مجتمع مدني، في تقنين الصغيرة والكبيرة في العلاقات العامة وبخاصة في العلاقات مع غير المسلمين.
وإن كانت الأقلية المسلمة معذورة بعدم تطبيق كل أنظمة حكم الإسلام في دول غير إسلامية يعيشون بها، فلا عذر للمسلمين بفصل النظام السياسي والإداري والاقتصادي الإسلامي في دولتهم. فهو نظام من صلب معتقدهم وشريعتهم، ولهم كامل الحق في تطبيق الإسلام على أنفسهم ومجتمعهم، ويكفي عدلاً من المسلمين في دولتهم حماية الأديان الأخرى، ما لم تعتدِ و «لا عدوان إلا على الظالمين» أي رد الاعتداء الظالم، مثلما يفعل الغرب الظالم في جل مواقفه على مدى التاريخ. بينما تشهد الوقائع أن المسلمين صاروا محط اعتزاز بهم في الدول التي فتحوها لنشر الحضارة وإشاعة العدل، كما حصل في الأندلس حيث أضحت وأمست خيرات آثارهم وحضارتهم وثقافاتهم وعمارتهم للإنسان والبنيان منابع دخل اقتصادي وفير لا ينقطع مع الأيام، واسألوا في مكان آخر - إن شئتم - وبين الفتح الإسلامي. إذا يستثني من مفهوم حكم الدولة الدينية الحكمة الإسلامي، لأنه من لوازم دين المسلم كما أن غير المسلم في ظله لا يعد معتنقاً للإسلام، وإنما هو في ظل حكم مجتمع مدني عادل لا يتم تجاهل حقوق الأكثرية تحته من أجل أقلية، ولا تهضم فيه حقوق أقلية مع أكثرية.
المرأة مثلاً: حديث الساعة و كل ساعة، ما أكثر ما يجري التركيز على حقوقها لصرف الأنظار عن حقوق المجتمعات برمتها. ولنشارك في صرف الأنظار، لنقول: إن المرأة ظلمت بسيف ذي حدين، ظلمت بإطلاق العنان للمحظورات والقيود التي كبلتها وسلبتها حقها باسم الدين، والدين الإسلامي الصحيح، نكرر (الصحيح) براءة من كل ذلك، وظلمت أيضاً بدعوى إنقاذها بإطلاق العنان من الدنيويين «العلمانيين» التغريبيين لحثها ودفعها إلى أن تسرح وتمرح كما تشاء وكيفما اتفق أو لم يتفق، لتصبح ملهاة لهم حتى لو آذت ووأدت روح الأسرة وحق الأطفال وقرناءها الرجال، والمجتمع بكل مكوناته، وسارت منقادة أو سيرت بلا ضابط ولا رابط، كما أشرعت أبواب اللامحدودية للحرية باسم العلمنة والعولمة وللرجل أيضاً، وهي استثمارات للفساد الذي يهيئ ويهيمن على مقاليد الأمور «الاقتصادية» الجشعة وغيرها. الحرية ليست متعة وطيش وإنما هي مسؤولية. وهذا أو ذاك هو ما أغلق فيه الإسلام الإسلام بابي: ظلم الكبت، وظلم الفلت عن المرأة ومناخاتها. وأوجد للمرأة المسلمة وغير المسلمة ما يناسب كلا منهما من الأنظمة التي تتفق وتناسب معتقد كل منهما كالأحوال المدنية.
من يتخوفون من الإسلام على الديمقراطية جعلوا الديمقراطية المفتوحة بالحرية المطلقة تسبق أهمية العدل ويديرها الأقوى مما يناقض دعواها وهم يمارسون منع ديمقراطية الشعوب في اختيار الأنظمة الإسلامية بدعوى التخوف من رفض ديمقراطيتهم كما جسموها وزينوها ونسوا أن للديمقراطية صوراً شتى غير الحرية، وأهمها تحقيق العدالة بالدرجة الأولى وإنصاف المستضعفين.
إنهم يقوضون الديمقراطية ويهدمونها باسم الحرص عليها!! هم مثل الأب الذي ينصح ابنه عن اللعن قائلاً له: لا تلعن، لعنك الله. الابن لم يلعن ولكن الأب مارس اللعن من خلال التوجيه التربوي والحكم على النيات وحتى لو بدر ذلك من الابن فإن العلاج أسوأ، حيث صار ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، ممن يبيحون لأنفسهم ما يحرمونه على غيرهم..
افهمني، قبل أن تحملني ما لم أقصده، فأحياناً العواصم من القواصم تكون قواصم من العواصم.. والله العالم.