مَنْ يطلع على كتب التاريخ في القرنين الثالث والرابع الهجري، ويبحث في ملفات الحركة المدنية في ذلك المجتمع، فسيدرك أن الفئات العاملة والمنتجة كانت تتبوأ درك الطبقات الدنيا والمهمشة في ذلك الوقت؛ فلم يكن لها صوت، ولا منظمات، ولم يكن لأعمالهم أو مصالحهم أي ذكر في بنود النظريات المتصارعة في المجتمع.
فالنُّخَب في المجتمع العربي الإسلامي كانت تنحصر في رجال الطائفة المنتصرة سياسياً، وفي الشعراء وأعوان القبائل والقادة والجند، بينما تعيش فئات وأعضاء المجتمع المدني العامل في ضائقة وأزمة خانقة في فصول التاريخ الإسلامي؛ فلا مؤسسات تكفل حقوقهم، ولا جمعيات تمثلهم أمام الفئات الأخرى في المجتمع، ولا أطروحات تقدم رؤيتهم.. ومن خلال نظرة سريعة من خلال تلك الزاوية في العصر الحديث سنجد أن المجتمع العربي لم يتغير كثيراً.
فالسلطات القبلية والفئوية والطائفية تسيطر على علاقات الأفراد في الساحة، بينما تختفي مقومات المجتمع المدني، بل إن بعض المجتمعات العربية، التي تعتبر متحضرة، لم تستطع إحلال مؤسسات المجتمع المدني بديلاً للطائفة.. كما هو الحال في لبنان، كذلك لم تستطع الطفرة النفطية في الخليج ودخول الشركات النفطية والصناعية الكبرى تغييب تأثير القبيلة والطائفية على المجتمع..
فالمصالح والمنافع لا تزال تحكمها القوة والسلطة، وليست الإنتاجية، وبرغم تطوُّر الحركات المدنية في الغرب، وتعاظم أدوارها في مشاريع التنمية الإنسانية بعد انحسار الإقطاع، وتوالي ثورات العصور الصناعية والتقنية والمعلوماتية، ووصول طفرات نتائج ثوراتهم المعرفية إلى الأرض العربية والإسلامية، ثم سيطرة أنظمتها الاقتصادية والعسكرية والصناعية على جميع شرايين الحياة في المجتمع العربي والمسلم، لكن ذلك لم يصل إلى حد التأثير على علاقات السلطة في المجتمع العربي، وكأن قدر العربي أن يظل مستهلكاً لا يكترث بعامل الإنتاج في العلاقات الاجتماعية.
كذلك خرجت شعوب الأمم التي فتحها المسلمون الأوائل من نفق «الصراع النظري» إلى ساحة العمل الميداني؛ فالهند والصين تجاوزا بأعجوبة عوائق الحلول النظرية إلى عالم الإنتاج والاقتصاد والنجاح في ثقافة العمل، بينما ما زال أسيادهم في القرون الأولى يتصارعون من خلال ابتكار جزئيات قابلة للانشقاق في النظرية، ثم فرضها كاليقين على الأتباع والأعيان.
يشغل الزخم النظري حيزاً كبيراً في عقول الأجيال العربية، وسيظل المجتمع يعيش في مخاض للتغيير من نوع مختلف؛ فالأفكار المجردة والإقصائية تحكم عقول الأفراد، وتحركهم للعمل من أجل خدمة أهداف مجردة من الإنتاج. والجدير بالذكر أن معظم مصادر سلطات المجتمع الحالية تستمد قوة قبضتها من تلك الأفكار، ومن قدرتها على حشد الأتباع حولها؛ فالمؤسسات النافذة في مختلف اتجاهاتها تقدم نفسها إلى الناس على أنها «الحق»، وغيرها الباطل؛ وهو ما يحرض الفئات المعارضة في المجتمع على العمل أو الحركة من خلال نقض أصول تلك النظرية وإثبات بطلانها؛ وهو ما يجعل مصالح ومنافع الناس في مهب رياح تلك الخلافات والانشقاقات.
لم يصل الوعي عند الأفراد في المجتمع العربي إلى العمل من أجل مصالحهم ومنافعهم كجماعات وفئات منتجة؛ فالمجتمع العربي يكاد يخلو من المؤسسات المدنية الفعّالة، التي من المفترض أن تمثل مصالح الذين يعملون بسواعدهم وبابتكاراتهم، وينتجون من مخزون جهودهم الذاتية، ولعل الحلقة الضائعة في هذه المعادلة هي انحسار صفة الإنتاج في ظل انتشار الشركات الكبرى الصناعية والزراعية، ويزيد من ذلك غياب المؤسسات والجمعيات المدنية التي تنشر الوعي، وتدافع عن حقوقهم في الإنتاج ضد الاحتكار.
إن المستقبل العربي لا يمكن أن ينهض إلا من خلال تفتيت متلازمة الانشقاق النظري المستحكم، وتهميش تأثيراته، وذلك بفتح ممرات جديدة عمادها الابتكارات والاكتشافات، وساحتها التجريب والتحديث والإنتاج، وسلاحها العقلانية المؤمنة والنفعية الواقعية؛ لتفكيك بعض المفاهيم البائدة والقائمة على الدم والطائفة أو الاجتهاد النظري الجديد، ثم إحلال روابط المواطنة التي تكرّس الإنتاج والإبداع من خلال العمل على إزالة جميع حقوق الامتيازات غير القانونية، ووضع الاستراتيجيات التي تؤدي في نهاية الأمر إلى استبدال المفهوم القبلي والطائفي لتركيبة المجتمع بمفهوم المواطنة التي تحميها معادلة الحقوق والواجبات.