كنت أنتقي للقراء قصصاً مع كل مقال، وهي من خيرة المصادر العربية للمتعة والعبرة؛ فالحياة وما يدور فيها عبر ومواعظ كما بيَّن الله في كتابه الكريم، وكان التنوخي أبو علي القاضي المتوفى عام 384هـ في كتابه الفرج بعد الشدة...
...وهو خمسة مجلدات، قد خصَّص كتابه هذا، كما يُبيَّن من عنوانه، لقصص واقعية، فيها عظة وفوائد، ويحرص على توثيقها، وبيان مصدرها على طريقة الراصدين تاريخياً، وقد يأتي ببعضها حسب السند.
وكل إنسان في هذه الحياة عرضة لأن يمر به موقف من مواقف الشدة. وهناك رغبة لدى كثير من القراء في مثل هذه الروايات، بل قاله لي بعضهم إنه يترقب الجريدة كل جمعة وإنه يحتفظ بذلك العدد من أجل ما فيه من قصة. ولا ريب أن مشارب الناس تتباين، وأذواقهم تختلف؛ فمنهم من يقرأ للتسلية، ومنهم من يجعلها للمتعة، ومنهم من يستفيد منها في بعض المواقف التي تمر للفائدة أو للتخفيف من موقف مرّ به، أو يؤنس به رفيقاً من باب: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة.
وقد اخترتُ في هذا اليوم واحدة من تلك الشدائد، وما حصل فيها من انفراج مزدوج، ومجازاة الإحسان بالإحسان، بدون مَنّ، ولكن نخوة وشهامة، من كتاب التنوخي، ورقمها التسلسلي 301 من الجزء الثالث؛ فأوردها المؤلف بهذا النص:
بلغني أنه كان بالكوفة - وهي مدينة بالعراق، من أشهر مدنها ذلك الوقت، ثم تقلصت الرغبة في سكانها؛ فقامت مدن أخرى مكانها -
أنه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب والظرف يعاشر الناس، وتأتيه ألطافهم - أي هداياهم - فيعيش منها هو وأسرته.
ثم انقلب الدهر عليه؛ فأمسك عنه الناس، وجفوه حتى قعد في بيته، والتجأ إلى عياله فشاركهن في فضل مغازلهن، واستمر على ذلك زمناً، حتى نسيه الناس، ولزمه الفقر، والفقر عدو لا يرحم؛ إذ قال فيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - «قاتل الله الفقر، لو كان رجلاً لقتلته».
قال: فبينما أنا ذات ليلة في منزلي، على أسوأ حال، إذا وَقْع حافر دابة، ورجل يدق بابي، فكلمته من وراء الباب فقلت: ما حاجتك؟ فقال: إن أخا لك لا أسميه يقرأ عليك السلام، ويقول لك إني رجل مستتر، ولست آنس بكل أحد، فإن رأيت أن تصير إليّ لنتحدث ليلتنا؟ فقلت في نفسي لعل حظي أن يكون قدر تحرك؟ ثم لم يكن لي ما ألبسه، فاشتملت بإزار امرأتي، وخرجت فقدَّم لي فرساً مجنوباً كان معه فركبته، إلى أن أدخلني على فتى من أجلّ الناس وأجملهم وجهاً، فقام إليّ وعانقني، ودعا بطعام فأكلنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث، فما خضت في شيء إلا سبقني إليه.
حتى إذا جاء وقت السحر, قال: إن رأيت ألا تسألني عن شيء من أمري، وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، إذا أرسلت إليك فعلت، وها هنا دراهم تقبلها، ولا تردّها، ولا يضيق بعدها عنك شيء، فنهضت فأخرج إلي جراباً مملوءا دراهم.
فدخلتني الأريحية، فقلت: اخترتني على الناس للمنادمة ولسرّك، وآخذ على ذلك أجراً، لا حاجة لي في المال. فجهد بي فلم آخذه، وقدّم إلي الفرس فركبته وعدت إلى منزلي، وعيالي يتطلعون إلى ما أجيء به، فأخبرتهم خبري.
وأصبحتُ نادماً على فعلي، وقد ورد عليّ وعلى عيالي ما لم يكن في حسباننا، فمكثت حيناً، لا يأتي إليّ رسول الرجل، إلى أن جاءني بعد مدة، فعدت إليه، فعاودني بمثل ذلك الفعل، فعاودته بالامتناع وانصرفت مخفقاً، فأقبلت امرأتي عليّ باللوم والتوبيخ. فقلت لها: أنت طالق إن عاودني الرجل ولم آخذ منه ما يعطيني، فلامتني فأطلقت ثلاثاً بطلاقها للتأكيد عليها.
فمكثت مدة أطول من الأولى، ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب، قالت لها امرأتي: يا ميشوم اذكر يمينك، وبكاء بناتك، وسوء حالك، فعثرت على الرجل، فلما أفضينا إلى مجلس الأنس، وقرَّب الشراب، قلت له: إني أجد علة تمنعني منه، وإنما أردت أن يكون رأيي معي، فأقبل الرجل يشرب، وأنا أحادثه إلى أن انبلج الفجر، فأخرج الجراب وعاودني، فأخذته، فقبل رأسي وشكرني على قبول برّه، وقدم إلي الفرس، فانصرفت عليه، حتى انتهيت إلى منزلي، فألقيت الجراب. فلما رآه عيالي سجدن لله شكراً وفتحنه فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي، واشتريت مركوباً، وثياباً حسنة، وأثاثاً وضيعة قدرت أن غلتها تفي بي وبعيالي بعدي، واستظهرت على زماني ببقية الدنانير (والدنانير عملة ذهبية).
وانثال الناس علي يظهرون السرور بما تجدَّد لي، وظنوا أني كنت غائباً في انتجاع ملك فقدمت مثريا، وانقطع رسل الرجل عني، ولم يعاودني.
فبينما أنا أسير يوماً بالقرب من منزلي إذا بضوضاء عظيمة، وأصوات الناس مختلطة، وجماعة مجتمعة، فقلت: ما هذا؟ قالوا رجل من بني فلان كان يقطع الطريق، فطلبه السلطان، إلى أن عرف خبره ها هنا فهجم عليه، وقد خرج على الناس بالسيف يمنع نفسه منهم.
فقربت من الجمع فتأملت الرجل فإذا هو صاحبي بعينه، وهو يقاتل العامة، والشُّرَط، ويكشف الناس، فيبعدون عنه، ثم يتكاثرون عليه ويضايقونه، فنزلت من فرسي، وأقبلت أقوده حتى دنوت منه وقد انكشف الناس عنه.
فقلت له: بأبي أنت وأمي شأنك والفرس، والنجاة، فامتطى على ظهره وانطلق بها فلم يلحق به أحد.
فقبض عليّ الشُّرَط وأقبلوا عليّ يلهزونني، ويشتمونني، حتى جاؤوا بي إلى والي الكوفة عيسى بن موسى، وكان بي عارفاً، فقدموني إليه وقالوا: أيها الأمير كدنا أن نأخذ الرجل فجاء هذا فأعطاه فرساً، نجا عليه.
فاشتد غضب الوالي عيسى بن موسى، وكاد أن يوقع بي وأنا منكر لذلك.
فلما رأيت الأمر محدقاً بي، ولا نجاة إلا بالصدق قلت: أيها الأمير أدنني إليك، وسوف أصدقك الأمر.
فاستدناني، فشرحت له ما كان من أمري، وما أفضت إليه حالي، وما عاملني به هذا الرجل مع أنني لم أعرفه، ورفض إخباري باسمه، وقال: وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، وأنا مستتر ولست آنس بكل أحد، وأني كافأته بجميل فعله.
فقال لي الأمير سراً بيني وبينه: أحسنت، لا بأس عليك.
ثم التفت عيسى بن موسى الأمير إلى الناس، فقال: يا حمقى هذا يُتَّهم؟ هذا معروف لدينا.
إنما لفظ حافر فرسه حصاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتِل، بسيف ماض، قد نكلتم عنه بأجمعكم، فكيف كان هو يدفعه عن فرسه؟ فآثر السلامة والعافية.
انصرفوا عنه، ثم خلّى سبيلي.
قال هذا الرجل: فانصرفت إلى منزلي وقد وفَّيتُ للفتى، ووفيت ذمامه، وحصلت النعمة بعد الشدة، وأمنت عواقب الحال، وكان هذا آخر عهدي بذلك الفتى، وانقطعت عني أخباره.
(الفرج بعد الشدة للتنوخي ج 3 ص 178 - 181).
ولما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث على مكافأة المعروف والصفح عن المسيء فيقول: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) أخرجه أبو داود والنسائي عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -، وأول الحديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه...) الخ.
(جامع الأصول لابن الأثير ص 692). وهذا من مكارم الأخلاق وشيم الإسلام، والأحاديث والآيات الكريمات والأحاديث القدسية في هذا المعنى كثيرة في الحث على هذا العمل، والله يحب المحسنين ويجازي المحسنين، وقريب من المحسنين، وجاءت محبة الله للمحسنين وقربهم منه سبحانه والثناء عليهم في كتابه أكثر من 30 مرة؛ لفضل الإحسان والمجازاة به.