يسرف الناس كثيرا في كل شيء، في عواطفهم مسرفون، فإن أحبوا أكلة شهية يسرفون في تناولها، وإن أحبوا شخصا قربوه إسرافا في التعبير عن حبهم له، وإن رغبوا في أمر ما يسرفون في البذل ليحققوه، وفي المقابل فإنهم يسرفون في الصد عن الأكلة التي كانت تلازم نهمهم، عند كل وجبة، إن أتاهم من ينقض قناعاتهم بفائدتها، أو أُصيب تذوقهم بما يعافها، وهم يقيمون السدود بينهم وبين مَنْ كان بالأمس مقربا، وتوغر نفوسهم عليه بعد أن كان الأحب الأطيب، لأي سبب وافق هواهم.. ولا يقف إسرافهم فيما يرتبط بشهوة الأكل، أو خفقة القلب، بل يتسع محيط إسرافهم فيطول دورهم التي يبنونها، يجعلونها عالية وسيعة، كثيرة الحجرات، متعددة الردهات، تستدعي إسرافا آخر، في جلب عدد من الأدوات لتنظيفها وترتيبها، ومن ثم يسرفون في إضافة أنفس لخدمتها، ويسرفون في اقتطاع مبالغ من دخلهم أجورا لهم، كما يسرفون في مائها، وكهربائها، وأدوات مطابخها، وأثاثها.. كذلك فإنهم يسرفون في اقتناء عرباتهم؛ فلكل فرد مركبة، ولكل غرض حركة؛ لذلك يسرفون في تصعيد زحمة الشوارع، وفي دفع مجتمعهم المواجه لإسرافهم بمقابلة عجلة الإسراف بإسراف نظير؛ لذا يُسرَف في محال التموين، والملابس، والمطاعم، و...و...
وفي الوقت الذي يتسم الناس فيه بالإسراف، مع وجود قلة معتدلة، إلا أن الظواهر تؤخذ بأغلبية عواملها، وعملائها، ومع أن ظاهر الإسراف خير، ودعة، ورفاه، لكنَّ باطنه شر، وفراغ، وتسطح.. وإلا ما أسرف الناس في السهر، وتركوا حكمته، ولا ناموا عن فرض، ونسوا واجبه، ولا أقبلوا على الدنيا فتركوا صغارهم للهوها، ورغائبهم لغرورها، ولا جهل الجار جاره إسرافا في حواجز الجدران، وتباعد الأركان، ولا فقدت الصداقة والخلص فيها، انشغالا بالذات، ولا تصدع الحب في القلوب الشاغرة بغير فطرتها، ولا نام أحد وهو لا يعلم عمن ولا عما في داخل بيته الوسيع، ولا شكت جوانح هجر أقاربها، أو حزن عجوز، وأبناؤه قريبون بعيدون..
الناس مسرفون، ولكن؟.. محجة الوسطية تشرق شمسها في عتمة الإسراف، حتى يفيء الناس من شهواتهم.. كانت لقمة في طبق، أو شجرة في بستان، أو وجها من الحسان، أو دارا من العمران، أو مركبة من حديد، أو ابنا من طين.. وإلى أن يعتدلوا في التعبير عنها، كبحا لعاطفة، وتأديبا لرغبة، وضبطا لهوى.. في جانبي الإقبال والإدبار, الرضا والسخط، الحب والكره، الميل والجنوح.. فالاعتدال شفيع..