أهل الثقافة الشعبوية يشبهون بالضبط أهل الثقافة التعبوية، بل ويتفقون عليهم أحياناً كثيرة، إلا أنهم يتميزون عليهم بأنهم مرتبكون ومتلبسون ومشوشو الرؤى.. ويعانون من وعكات صحية مختلفة وعاهات
أ دمنت ثقافة الاستجداء.. إن من المضحك أن تطلق بعض الصفات على البعض من هؤلاء كصفات الذي اكتشف عطارد أو المجرات أو علم الذرة أو كيمائيات الجسد، إن الثقافة الشعبوية الراهنة مؤشر خطير لأنها ابتليت بجيش كبير من الأميين والمتكسبين والمدّاحين الذين استبدل معظمهم جلدته ليطل علينا بوجه يشبه وجه الفاتحين، لكنهم سرعان ما يستديرون بدرجة مذهلة نحو الخلف المُعتم.. إن الثقافة رسالة محاطة بقدسية موهبتها.. لها الكثير من التقولات والتنظيرات، وليست كفاصل بين من يغني في ملاهي الدرجة العاشرة.. أنا لا أعترض على (الشعبويين) حياتهم وطريقه تصرفاتهم وسلوكهم، لكن جملة أخطائهم وترديهم يتيح لي ثغرة هامة وبائنة لجدلهم بسياط النقد القويم.. إن الذي يثير اندهاشي واستغرابي إزاء هكذا انحدارات أن يجد الشعبويون مساحة واسعة للانتشار والاحتواء والتشجيع والإغداق.. إن مستوى الجهل والأُمية التي سكنت في عقليات بعضهم تفتقر للوعي والفهم الدقيق الذي من شأنه أن يؤدي لتوظيف واعٍ للموروث الشعبي النقي وسبل النهوض به من خلال نبذ روح الأنانية.. إن الشعارات الرمادية التي يطلقها هؤلاء ويتحصنون خلفها بمراوغة وخداع وفق مفردات لغوية وأورمة تراثية وتراكيب جملية غير حية من أجل أهداف واحتياجات محددة سلفاً أو محاولة توظيف ممكنات التعبير من أجل الترويج لاعتقادات ورموز تشبه بالضبط الأضاحي على رخام المذابح، أقول: يرى بعض هؤلاء الشعبويين بأن انتماءهم الإقليمي يعطيهم أهمية التفوق وأهمية المنجز.. ويعتقدون بأنه يعصمهم من أن يكونوا واقفين على أرض النقد كمثل باقي البشر، وهم برؤيتهم الساذجة تلك يضعون بينهم وبين الآخرين جبلاً من ضباب يجعلهم عاجزين عن رؤية وملامسة جوهر الحقيقة.. الشيء الذي يجعلهم منفيين عن النبض الحضاري الذي يؤهلهم إلى الإصابة كنتيجة حتمية بالعمى وضبابية الرؤية.. إن هؤلاء ومن لفّ لفهم.. ومن قلَّد تقليدهم عندما يستعينون بالعناوين المطاطة والشعارات الزائفة والسياقات الطائفية.. ويوظفونها كمضخات ومولدات أساسية لنشاطهم.. إنما يبرهنون بصور واضحة ومكشوفة على نكوص واضمحلال وعيهم.. ويكشفون وبجلاء عن الزيف الكبير المُختبئ خلف ادعاءاتهم وشعاراتهم، لأنه لا يمكن لشخص أن يُسمي نفسه عقلانياً ومثقفاً ومتنوراً، ويركن كامل عقله في الوقت نفسه في زاوية رثة ومظلمة وبائسة وقابعاً في متحف الخرافات ومهووساً برموز وأيقونات تاريخية.. بعيداً عن معطيات ومكتسبات ومنجزات الحداثة.. إن على الشعبويين إذا أرادوا القبول والترحيب مد جسور الوعي وفق طرق تعبيرية راقية وجمالية أخَّاذة لها أبعاد نقية وصافية، واستثمار الأشياء بعيداً عن الطرح المعيب، أن عليهم أن يستلهموا المفاهيم من واقع الحياة اليومية.. وأن يسلكوا هذا النهج لمجابهة الكهوفيين والكهنوتيين والسوداويين والظلاميين وأعداء الحياة، وعليهم أن يملكوا بدقه الوعي والإحاطة بقضايا العصر الراهن، بعيداً عن البحث عن مجاهيل الدنيا والنبش في مقابرها الأزلية المخيفة.
ramadanalanezi@hotmail.com