كنت أظن أن حضوري ملتقى جمعية التاريخ والآثار لدول مجلس التعاون العربية في البحرين، ومن ثم الانطلاق إلى دبي لحضور مسابقة الشعر لطالبات كلية الشريعة واللغة العربية التي أقامها ويرعاها ..
الشيخ الفاضل جمعة الماجد، سيبعداني نوعاً ما عن خضم الغرق في بحر ما تعيشه أمتنا من ذل وهوان.
لكني أدركت أني - كما يقول المثل الشبعي - «أنحش عن شعبا وشعبا تبرا لي». وإذا بي أجد نفسي تتأمل فيما تتناقله وسائل الإعلام المختلفة عن قضايا هذه الأمة، امتداداً من أفغانستان إلى فلسطين وما يتعلق بهذه وتلك، مثل العراق والسودان، وأجدني أعود بالذاكرة التي ما برحت تتناوبها معاول الهدم إلى شيء مما سبق أن كتبته عن القضية الفلسطينية بالذات.
قبل ستة شهور فقط تناقلت وسائل الإعلام تصريحات لعدد من أركان السلطة الفلسطينية تنص بوضوح على أنه: لا تنازل عن وجوب انسحاب إسرائيل - دون ذكر أنها عدو محتل بطبيعة الحال - من الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس الشرقية، ولا تنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين - وهو حق أقرته الأمم المتحدة قبل أن تصادر قوتها قوة البطش الكبرى، وحق لم يعد زعيم عربي له مكانته يذكره -، ولا اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، وهذه اللاءات الثلاث هي أقل ما يمكن أن يطالب به أركان السلطة الفلسطينية بعد أن حذف من ميثاق منظمة التحرير ما حذف من أمور جوهرية، وآلت أمور المنطقة بعامة وأمور الفلسطينية بخاصة إلى ما آلت إليه.
وكان مما ذكرته في تلك الكتابة لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث المشهورة: وهي: لا مفاوضات مع الدولة الصهيونية المغتصبة لفلسطين، ولا اعتراف بشرعية وجودها على الأرض العربية، ولا سلام معها. وقلت: إن التمسك بتلك اللاءات ظل من الثوابت لدى أقطاب الزعماء العرب، الذين أصدروا ما قرروه في ذلك المؤتمر عام 1967م، لكن هذه اللاءات أصيبت واحدة بعد أخرى بهشاشة العظام إلى أن وافاها الأجل المحتوم في نهاية الأمر.
ومما ذكرته في تلك الكتابة، أيضاً، أنه إذا كان لغياب أولئك الأقطاب من زعماء العرب عن الساحة أثره السلبي في مسيرة القضية الفلسطينية فإن لاتفاقية كامب ديفيد أثرها الخطير جداً في تلك المسيرة؛ إذا استفحل داء هشاشة العظام في جسد أمتنا. وسرعان ما انفرطت حبات المسبحة بجهود أمريكية متقنة الخداع. وإذا بأمريكا تضيف نصراً آخر للصهاينة ملحقاً بما حققوه نتيجة تلك الاتفاقية؛ وذلك بعقد مؤتمر مدريد ليتفاوض العرب مع قادة الكيان الصهيوني في مدريد على أساس الأرض مقابل السلام دون ذكر لمسألة عودة اللاجئين. والمقصود بالأرض - بطبيعة الحال - الأرض التي احتلت عام 1967م.
مما علمه المتابعون لمجريات القضية الفلسطينية حق العلم أن لاءات مؤتمر الخرطوم المشهورة الدالة على عظمة إرادة من أصدروها من قادة أمتنا. وإني لمقتنع كل الاقتناع بأهمية قادة الشعوب في قيادتنا للوصول إلى ما يحقق آمالها.
ولقد قلت في الكتابة المشار إليها: هل يثبت أركان السلطة الفلسطينية أنهم لن يتنازلوا عما صرحوا به من تمسكهم باللاءات الثلاث التي ذكروها؟
وقلت: لمن أراد أن يحاول الإجابة عن هذا السؤال أن يتأمل مسيرة تلك السلطة؛ بدءاً من انطلاقة كبرى الفصائل «فتح» عاصفة ضد المحتلين الصهاينة، ومروراً بما حدث من وراء ظهر الوفد الفلسطيني في مؤتمر مدريد من توقيع على اتفاقية في أوسلو التي كبلت بعض بنودها حركتها المقاومة ليرى الجميع ما يحدث الآن على أرض الواقع من موقف تجاه أي عنصر مقاومة للاحتلال.
وكان مما أضافه أركان السلطة الفلسطينية إلى اللاءات الثلاث التي صرحوا بها أنهم لن يعودوا إلى المفاوضات مع الكيان الصهيوني - وهي مفاوضات لا يستطيع أحد أن يتجاهل كونها لم تقد حتى الآن إلا إلى مزيد من التنازلات لصالح ذلك الكيان - إلا إذا أوقف ذلك الكيان مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات (المستوطنات).
ما الذي حدث على أرض الواقع بعد تلك الإضافة من قبل السلطة؟ لقد تسارعت تحديات الكيان الصهيوني كما تسارعت إهاناته لهذه السلطة بخاصة والعرب بعامة. تسارع تهويد القدس؛ وهو أمر وضع أساسه هرتزل، ورسخه بن جورين، واستمر في تنفيذه المتربعون على كراسي الحكم الصهيوني الآن معلنين أنه هدف لا تنازل عنه. وأعلن هؤلاء أن المسجد الإبراهيمي ومسجد بلال من التراث اليهودي، وأنه لا يحق للفلسطينيين ولا غيرهم التحدث عن القدس؛ إذ هي بكل تحد وصلف مدينة يهودية عاصمة موحدة أبدية لدولتهم. وظلَّ بناء المستعمرات (المستوطنات) متسارعاً. بل إن الصهاينة اتخذوا قراراً بترحيل عشرات الآلوف من الفلسطينيين من الضفة الغربية وشرعوا في ذلك الترحيل. وقد يكون هذا إيذاناً بما هو أشد وأنكى وهو ترحيل الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م؛ وذلك لتصبح الدولة الصهيونية - كما يطالب به الصهاينة الآن - دولة يهودية بحتة.
أدرك غاية الإدراك أن ما يشير إليه بعض الخداعين أو المنخدعين من وجود خلاف بين الإدارة الأمريكية الحالية والزعامة الصهيونية أمر ليس صحيحاً. ذلك أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكم؛ واقعة تحت رحمة المتحكمين - بدرجة كبيرة - في اتخاذ القرار وفي توجيه الرأي العام، ظلت مساندة للكيان الصهيوني في كل الجوانب وبمختلف الوسائل.
ما يتردد الآن في مختلف وسائل الإعلام أن السلطة الفلسطينية ستعود إلى المفاوضات العبثية مع الصهاينة بالرغم من استمرارهم ببناء المستعمرات، ولاسيما في القدس، وتهويد الأرض الفلسطينية. والتنازل التدريجي عن الحقوق الفلسطينية، والالتفاف حول ما يصرح به من مواقف، أمور مما أدمن على ممارسته المتنفذون من الفلسطينين بخاصة ومن العرب بعامة. لذلك ليس غريباً أن تنجح الإدارة الأمريكية في التمويه - كعادتها - بأن تكون المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني غير مباشرة؛ تحلية بضاعة. «ما انشقت مير هي تخسر».
لا أجد ما أختم به هذه المقالة أنسب من عنوانها: ما أسرع الرجوع إلى مستنقع الخضوع؛ ألا إلى الله تصير الأمور.