فقدت الأحساء أمس الأول أحد أبرز علمائها على مستوى الخليج والجزيرة العربية علما من أعلام الفكر والأدب في بلادنا هو الأديب والدبلوماسي الشيخ أحمد بن علي بن عبد الرحمن بن عبد اللطيف المبارك، الذي ولد بمدينة الهفوف حاضرة منطقة الأحساء التاريخية عام 1333هـ وينتسب إلى قبيلة بني تميم المعروفة، علمُ رفيع من أعلام الأدب والفكر لا يُسبر غوره في معارفه الكثيرة وثقافته الواسعة العريضة، التي أهلته لأن يكون مصباحاً في أسرته وبلاد الأحساء واستفاد منه الكثيرون داخل البلاد وخارجها.
اشتغل بالتأليف والتدريس والدبلوماسية وتمرس بعلوم الدين والدنيا وبرع في الأدب والتاريخ والتربية والسياسة ولمع اسمه في تاريخ البلاد شخصية مرموقة وأديباً واسع الاطلاع ومرجعاً في التاريخ والسياسة والاجتماع لاطلاعه العميق ودرايته الواسعة ومناقبه الوطنية وعقله الراجح وحكمته الرصينة.
نشأ الشيخ أحمد في أسرة اشتهرت بالعلم والأدب ومكارم الأخلاق، بدأ مشواره العلمي في الكتّاب ثم درس على علماء بلاده فلازم والده ودرس على يده الفقه والحديث والقرآن الكريم، ودرس كذلك على يد عدد من المشايخ منهم العلامة عبد العزيز بن صالح العلجي والعالم الجليل الشيخ عبد العزيز بن حمد آل مبارك والشيخ مبارك بن عبد اللطيف آل مبارك علوم اللغة العربية والنحو والصرف، وانتقل إلى بغداد في ريعان شبابه لتحقيق حلمه الأول بنهل العلم من مدرسة دار العلوم العربية والدينية الثانوية، وهي من المدارس العربية الإسلامية العريقة التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى العصر العباسي سنة (459هـ)، حيث تُعد هذه المدرسة تلاميذها المتخرجين للتدريس بالمدارس الابتدائية للغة والأدب العربي، ولكن مشيئة الله لم تحقق لهذا الفتى الطموح حلمه الأول فأدت ضغوط أسرية ونفسية إلى اتخاذه قراراً بالعودة إلى الأحساء حيث حبه الأول ودفء أحضان الأسرة وتزامنت عودته مع بواكير نهضة علمية في الأحساء، وأخذت التغيرات الاجتماعية تفرض واقعاً جديداً من العلم والجد في طلبه فأقنع هذا الفتى الموهوب الراغب في العلم والده وكبار علماء أسرته ببعثه إلى مصر سنة (1356هـ) ليكمل دراسته الثانوية هناك ومن ثم ليلتحق بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر، ولم يكفه نهمه في العلم أن تخرج من الأزهر بإجازة في الأدب العربي، فواصل دراسته في معهد التربية العالي في جامعة عين شمس، ليتخرج منها بدبلوم في التربية وعلم النفس.
وهناك انتهت مهمته في أرض الكنانة، وقفل عائداً إلى وطنه الحبيب سنة (1371هـ) وكانت محطته الوظيفية الأولى تعيينه مفتشاً عاماً على جميع مدارس المملكة الابتدائية والثانوية بمديرية المعارف العامة وكان مركزها في ذلك الوقت مكة المكرمة، ثم بعد انقضاء سنة على شغله لهذه الوظيفة انتقل إلى منطقة التعليم في جدة وعين مديراً للتعليم بها لمدة أربع سنوات، وهذا ما لفت الانتباه إليه، حيث كانت المملكة تعيش مرحلة الانتشار الدولي والسمعة العالمية العطرة في مختلف الأصعدة وكان الطلب على الكوادر الوطنية الواعية في أوجه فانتقل إلى وزارة الخارجية ليبدأ مشواره فيها مديراً للإدارة الثقافية والصحية وارتقى به حسن خلقه وأداؤه الوظيفي المتميز، حتى تم تعيينه مسؤولاً عن الشؤون القنصلية بسفارة بلاده في الأردن، وبعد أداء وظيفي مشرّف نقل إلى نفس المنصب في سفارة بلاده في الكويت وكان لحسن الطالع أن تزامن هذا النقل مع استقلال دولة الكويت سنة (1381هـ - 1961م) ثم عين مستشاراً لسفارة المملكة هناك. وبعد ترك بصماته وضاءة على عمله في الكويت أرغمه تراجع صحته على طلب العودة إلى المملكة، حيث تسلم على الفور رئاسة إدارة الصحافة والنشر والترجمة بوزارة الخارجية.
ثم ما لبث أن استأنف حياته الدبلوماسية، قنصلاً في البصرة لمدة أربع سنوات ومنه إلى جمهورية غانا ليواصل خدمة بلاده هناك لما يقرب من خمس سنوات، ومنها إلى الدوحة ليكون أول سفير سعودي في دولة قطر بعد استقلالها، وفي عام 1392ه حضر لقاء القمة الخليجي الذي عقد في كلية البترول والمعادن بالظهران آنذاك وكذلك حضر لقاء القمة التي عقدت في أوائل عام 1395 ه برعاية جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز - رحمه الله - بحكم منصبه كسفير لبلاده في إحدى دول الخليج العربي، وبعد ردح من الزمن من عمله سفيراً، عاوده الحنين إلى وطنه فعاد إلى المملكة ليكون مديراً عاماً للإدارة الإسلامية في وزارة الخارجية، وبقي فيها يعمل بجد وإخلاص وقوة وأمانة إلى أن تقاعد سنة (1415ه) وبعد ذلك عين عضواً في مجلس إدارة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية الذي يضم نخبة من أدباء المنطقة وذلك في عام (1411ه) وأثناء وجوده في مصر تعرف على الكثير من أدبائها منهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور عبد الوهاب عزام والأديب أحمد حسن الزيات صاحب (مجلة الرسالة) وكذلك الشهيد الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين المتوفى سنة (1949م) والأديب الكبير علي باكثير والدكتور زكي مبارك والأديب الكبير عبد القادر المازني، كما أصبحت له علاقة أدبية مع أدباء المملكة منهم على سبيل المثال الأديب طاهر زمخشري والأديب عبد العزيز أحمد الرفاعي والأديب الشيخ عبد الله بن إدريس والأديب المؤرخ الشيخ حمد الجاسر، وهو وإن ترك ميدان العمل الرسمي لم ينقطع عطاؤه الفكري لمجتمعه مقدماً ثمرة تجاربه اليانعة، مكرساً نشاطه هذه المرة في حقل الحياة الاجتماعية جامعاً بين علوم الدين وصناعة الأدب وقرض الشعر، فما تزال محاضراته في الأحساء وخارجها متتابعة وله كتابات في عدة صحف ومجلات، وقد تولد من رحم هذه التجربة الرائعة ندوة أدبية ثقافية جامعة، يعقد لواؤها في يوم الأحد من كل أسبوع اشتهرت ب (الأحدية المباركية) التي عقدت في أول مرة في عام 1411ه وهي اليوم تستقطب نخبة من العلماء والأدباء وصفوة المثقفين وجمهور واع عريض وتعالج الندوة موضوعات دينية وأدبية وتاريخية وعلمية وتربوية وموضوعات أخرى كان لها الأثر الفعال في إثراء الحركة الفكرية في المنطقة، ومعظمها موجه إلى الشباب خاصة وجمهور من المتابعين المهتمين عامة، ولشيخنا الجليل مؤلفات تحت الطبع من أبرزها كتاب في (تاريخ الدولة العثمانية) وكتاب عن (تاريخ الأحساء في ماضيها وحاضرها) ورواية عنوانها..... (في بداية الطريق) وهي في أدب الرحلة... ومجموعة رسائل جاءت كالدر المنثور والعبق المنشور معنونة بالمودة والعتاب والاعتذار.
وها هو عطاؤه الثري كالينبوع الخالد لا يغور ماؤه ولا يجف قراره يواصل رسالته العلمية الفكرية النبيلة.
تكريمه:
الجدير بالذكر أنه تم تكريم الشيخ أحمد بن علي المبارك في مهرجان الجنادرية بتاريخ 5- 11- 1423هـ وقد منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى.
وقد اختير الشخصية المكرمة لهذا العام في هذا المهرجان الكبير لمكانة الشيخ العلمية والأدبية ولما قدمه من خدمة جليلة لطلاب العلم وخدمة لوطنه أثناء عمله في وزارة الخارجية وغيرها من المناصب التي تقلدها، وعلى هامش هذا التكريم تم تكريمه في الجهات التالية:
1- تكريمه في اثنينية الشيخ عثمان الصالح يوم الاثنين 10-11-1423هـ.
2- تكريمه في جريدة اليوم بالدمام يوم السبت 15-11-1423هـ وفي هذا الحفل أيضاً تم منحة بعض الدروع التذكارية من بعض الجهات الحكومية.
3- تكريمه من قبل النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية في قاعة مشروع الري والصرف بالأحساء يوم الثلاثاء 3-12-1423هـ.
4- تكريمه في منزل الوجيه الشيخ عبد الله بن عبد المحسن آل ماضي في مدينة الرياض.
5- تكريمه من قبل كلية التربية للبنات بالأحساء.
6- تكريمه من قبل قسم اللغة العربية في كلية التربية بجامعة الملك فيصل باعتباره أستاذا غير متفرغ بالقسم. وبمناسبة تكريمه في مهرجان الجنادرية فقد أصدر الباحثان الأستاذ خالد الجريان والأستاذ عبد الله الذرمان مؤلفاً يحكي حياة الشيخ أحمد وأدبه يحمل اسم (الشيخ أحمد بن على الشيخ مبارك رائد الأدب الأحسائي الحديث حياته وأدبه) يقع في 310 صفحات ويحوي العديد من الصور والوثائق الخاصة بالشيخ. وبالمناسبة أيضاً فقد صدر للشيخ أحمد مؤلف عن رحلته العلمية يحمل عنوان (رحلة الأمل والألم).
وبوفاته فقدت الأحساء رمزا من رموزها سيبقى في سجل التاريخ شاهدا على الأحداث الأدبية والتاريخية.. رحم الله شيخنا الفاضل رحمة واسعة.
* الأحساء