ودع علماء الأحساء وأدباؤها ومثقفوها عميد الأدب الأحسائي الأديب الشيخ أحمد بن علي آل الشيخ مبارك سفير وزارة الخارجية السابق الذي وافاه الأجل المحتوم عصر يوم الجمعة 9-5-1431هـ إثر صراعٍ طويلٍ مع المرض وهو في سن الثمانين رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وإن كنت أدين بفضلٍ لمدرسةٍ ثقافيةٍ أثَّرت في شخصيتي تأثيراً بالغاً وبلوَرت مفاهيمي في الحياة الفكرية وأنضجت عقلي وسددت أرائي وتوجهاتي فهي مدرسة الأديب والدبلوماسي الشيخ أحمد المبارك يرحمه الله المتمثلة في أحديته الثرة التي عمَّ نفعها كل من يرتادها كيف لا؟ وقد كنت أكثر الملتزمين بحضورها الأسبوعي منذ تأسيسها وكان لها الفضل في تعلقي بالكتاب ونهمي في قراءته لما أذكته في نفسي من جذوة الحماس للقراءة وحب الثقافة والمثقفين وحضور المجالس الثقافية التي تأسست من بعدها ومهما تحدثت عن فضل الأحدية عليَّ لن أستطيع الوفاء بحقها وحق راعيها غفر الله له ذلك الرجل الأنموذج في خلقه وسلوكه وتواضعه وتعامله الفذ مع الجميع الذي يأسر القلوب ويفرض المحبة والمودة والاحترام لشخصه الكريم والمفضال الذي له كفاح طويل في الحياة العلمية والأدبية وسيرته النموذجية الحافلة بالعطاء تتمدد وتتشعب وتتسع حتى تضيق عنها الأطر فلقد شق طريقه العلمي منذ أن كان في السابعة من عمره عندما أرسله والده يرحمه الله إلى المطوع لتعلم القرآن الكريم وبعد بلوغه سن الثانية عشرة التحق بمجالس العلماء ومدارسهم الدينية ودرس على أيديهم علوم الفقه والحديث واللغة وفي سن الخامسة عشرة شعر بأن هناك علوماً أخرى لم تتوفر في بيئته فتاقت نفسه إلى الدراسة في المدن الكبرى كبغداد والقاهرة والتحق بالجامعة الأزهرية وحصل منها على (الليسانس) في اللغة العربية وآدابها ثم التحق بجامعة عين شمس وحصل منها على دبلوم في التربية وعلم النفس من معهد التربية العالي ثم عاد إلى المملكة وتقلد منصب مفتش عام على المدارس الابتدائية والثانوية وبعد تحوُّل المعارف إلى وزارة سنة 1373هـ عُيِّن مديراً للتعليم بمحافظة جدة وفي مطلع 1375هـ انتقل إلى وزارة الخارجية وتقلب في عدة وظائف ورأس عدة إدارات ومن ثم نُقل إلى سفارة المملكة في الأردن وعين مستشاراً في الكويت وقنصلاً في البصرة وقائماً بالأعمال في سفارة المملكة بغانا ثم سفيراً في قطر كأول سفيرٍ للمملكة بعد استقلالها وأخيراً استقر به المطاف سفيراً في وزارة الخارجية إلى عام 1415هـ حيث انتهت خدماته في الوزارة وأحيل للتقاعد وعمل أستاذاً غير متفرغ بجامعة الملك فيصل بالأحساء. وللشيخ أحمد المبارك يرحمه الله عطاء فكري جم يتمثل في عددٍ كبيرٍ من المؤلفات في الأدب والتاريخ واللغة طبع بعضها بعد أن أدى واجبه في الحياة العملية ومنها (رحلة الألم والأمل) (الدولة العثمانية معطياتها وأسباب سقوطها) (الأحساء ماضيها وحاضرها) (علماء الأحساء ومكانتهم العلمية والأدبية) (عبقرية الملك عبدالعزيز) (رسائل في المودة والعتاب والاعتذار) (الأمثال العامية في الأحساء ومقارنة بينها وبين الأمثال في بعض الدول العربية والخليج العربي) إضافةً إلى حضوره البارز في النشاطات المنبرية داخل وخارج المملكة حيث ألقى عدة محاضراتٍ في القاهرة وفي عددٍ من مناطق المملكة وكان عضواً في مجلس إدارة نادي المنطقة الشرقية الأدبي وعضو شرف في رابطة العالم الإسلامي.
وله في الأحساء معلم ثقافي بارز أقامه عام 1411هـ وذاع صيته وشهرته على مستوى المملكة ويتمثل في ندوته الثقافية التي تعقد كل ليلة اثنين في مجلسه العامر ويشارك فيها نخبة من رجال الفكر والعلم والأدب ويحضرها صفوة المجتمع وأساتذة الجامعات والكليات المقيمين في الأحساء وتلقى فيها المحاضرات وتعقد فيها الأمسيات الشعرية والقصصية والحوارات المفتوحة والمناقشات الأدبية وقد استضافت كبار الشخصيات الثقافية والعلمية من داخل وخارج المملكة ولعبت دوراً بارزاً في إحياء التراث الفكري الأصيل والتصدي للحركات الفكرية المعادية للأدب العربي ولغته.
وعن أحدية المبارك تحدث الكثير من الكتاب ولعل أكثرهم حديثاً عنها الكاتب: خالد بن قاسم الجريان لالتزامه بحضورها وتأثره بها والذي يؤكد بأن عقد أدباء الأحساء قبل قدوم الشيخ أحمد المبارك إليها كان منفرطاً وكان قلة منهم منذ القديم يلتقون في إحدى المزارع ضحوةً كل ثلاثاء وقد حز في خاطر المبارك أن يرى أدباء الأحساء كلٌ في زاوية وخشي أن يذوبوا في التيارات الأدبية الغربية فينصهر الأدب الأحسائي الأصيل في بوتقة المذاهب المستوردة وتفقد المنطقة عندئذٍ تراثها العريق فقرر مع بعض الغيورين والمخلصين إقامة منتدى أدبي يلتقي فيه كل محبٍ للأدب ويكون مصداً لتلك التيارات الهدامة لأدبنا الأصيل واستطاع خلال فترةٍ وجيزةٍ أن يستقطب عيون وقلوب محبي الأدب من كل مكان وظهرت بصمات ندوته واضحةً على جيل الشباب الناشئ الذي راق له هذا المجلس الراقي فكان مدرسةً خرجت الكثير من الشعراء والكتاب ورافداً قوياً للحركة الثقافية في المنطقة. وللجريان كتاب عن حياة الشيخ المبارك ألفه بالاشتراك مع الكاتب عبدالله بن عيسى الذرمان يربو على 300 صفحة بعنوان (الشيخ أحمد المبارك رائد الأدب الأحسائي الحديث) وقد قدمه معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر وزير الدولة سابقاً وقرضه معالي الدكتور يوسف بن محمد الجندان مدير جامعة الملك فيصل كما ألف الدكتور خالد بن سعود الحليبي كتاباً مماثلاً بعنوان (أحمد بن علي آل الشيخ مبارك شيخ أدباء الأحساء في العصر الحديث في عيون معاصريه) يقع في 220 صفحةً وقام المؤلفون بتوزيع هذين الكتابين تزامناً مع مناسبة تكريم المبارك في المهرجان الوطني للتراث والثقافة في الجنادرية يوم 6-11-1423هـ بعد أن اختارته اللجنة المنظمة شخصية ذلك العام الثقافية واختير عدد من الأدباء في المملكة لتناول جوانب حياته العلمية والأدبية وهم الأديب الدكتور خالد بن سعود الحليبي والأديب خليل بن إبراهيم الفزيع والشاعر الكبير أحمد سالم باعطب والكاتب عبدالله العبدالهادي وإدارة الأديب حمد بن عبدالله القاضي عضو مجلس الشورى.
عبداللطيف صالح الوحيمد