قدرهُ أن يرتحل مبكراً ومتأخراً؛ فكان هرباً في الصغر وعملاً في الكبر، وكلاهما في مقصدٍ نبيل من أجل العلم في الأولى والعمل في الثانية.
محطاته - وهو صبيّ - البحرين والكويت والعراق، ثم بحث عمّن يتوسط له عند والده كي يعود إليه في مدينته، وإذْ لم يطق مكثاً طويلاً فقد تم السفر هذه المرة، برضا العائلة، ولكن إلى الغرب المجاور وتحديداً لمصر وجامعة الأزهر.
ولعل من أبرز مميزات (المجلة العربية) - في عهد الأستاذ حمد القاضي - احتفاءها بالسير؛ فقرأنا لشيخنا محطات قاهرية مهمة متمثلة بعلاقته الوثيقة مع أبرز رموز الأدب والثقافة إذْ ذاك، ومَنْ لا يدهشه أن يستوعب معنى أن يضمّه وأعلام الأمة مكان وزمان؛ فيتفحص الوجوه، ويقرأ الملامح، ولا يعود اسم «طه حسين» مضيئاً في الكتب بل مرتسماً في الذاكرة، والكبار سواه كثيرون.
أحمد بن علي المبارك (1337هـ-1431هـ الهفوف) أكمل تعليمه العام والعالي في مصر، وتخرج قبل ستين عاماً في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر حاصداً الشهادة الجامعية، وبدبلوم التربية من جامعة عين شمس، وعمل في المعارف مفتشاً، ومعتمداً، ومديراً لتعليم جدة، ودبلوماسياً في وزارة الخارجية، وتنقل بين الأردن والكويت والعراق وغانا وقطر، وتقاعد قبيل أن يبلغ الثمانين.
تفرغ لأحديّته، ولا ندري أثمة سر في يوم الأحد كي تستأثر به ندوة «المباركيْن»: راشد في الرياض وعمرها ثلاثون عاماً، وأحمد في الأحساء (منذ عشرين عاماً)؛ لتظلَّ الندوتان شاهدتين على قيمة المنتديات الخاصة حين يقوم بشؤونها العلماء وذوو الرأي.
كُرِّم الشيخ المبارك في الجنادرية، وأصدر عدداً من الكتب عن الأحساء وعلمائها، وعن الدولة العثمانية، ورسائل في المودة والعتاب، وسوانح في الحياة والمجتمع، وديواناً شعرياً، ورصد ارتحاله العلمي في كتاب أسماه: في بداية الطريق، وآخر عن حياته العلمية بعنوان (في منتصف الطريق).
انتصر لنظرية تحويل (مدائح) المتنبي في (كافور) إلى (هجائيات)، وهي جزء من نظرية إضفاء الهالات «فوق الإنسانية» على أناس مثلنا؛ فنصورهم بمظهر المستشرف لغد الحياة القادر على فك أسرارها، ولم تكن الأغراض الشعرية ما صَنَعَ أبا الطيب بل شعريته المتفوقة التي جعلته هرما لا يُطال رغم أنه لم يقل أكثر من ستة آلاف بيت، في حين جاوز مجايلوه وسابقوه ولاحقوه مئات الآلاف من الأبيات، فظل وانحسر كثيرون، ولو كانت القضية مرتبطة بأهداف شعره فإننا لن نعدو الحق - إن شاء الله - إذا رأيناه وصولياً، انتهازياً، أنويا، مسكوناً ببارانويا متضخمة؛ فلا نخاله مثالاً أخلاقياً ولا حتى إنسانياً.
رحم الله شيخنا المبارك؛ فقد كتب ما قاله وهو، بعد، فتى لما يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ولن يبقى من جماعة المثقفين إلا ما تركوه من إرث معرفي قابل للحياة.
الاسم لا يفنى