يتمنى الإنسان طول العمر والصحة الجيدة، وفي طول العمر ما هو خير للإنسان وربما كان الأمر غير ذلك، وحتى تتحقق الأمنية بأفضل ما يتمنى الإنسان فإن للاستقرار النفسي والثبات أهمية يتيسر معها توازن الإنسان في كل أموره.
ومن المعطيات التي تساعد على هذا الاستقرار المنشود أن يعرف الإنسان بعضاً من ملامحه النفسية، وحينما نشير إلى ملامح فالقصد معرفة بالنفس ولو كانت بالحد الأدنى، وإذا عرف الإنسان شيئاً من تلك الملامح وقف على الإمكان لديه.
ويزيد استقراره متى أدرك بوعي إيماني سنن الله في خلقه وفي عمار الأرض لتأتي المحصلة بالمزيج الذي أساسه التعرف على هذه السنن، وكذلك التعرف على شيء من الملامح النفسية. حينها وبتفعيل ذلك من واقع المعرفة والإيمان تؤسس منهاجاً لمسيره.
ومن الطارئ أن يتعرض الإنسان إلى ابتلاء تتعدد أشكاله وأسبابه، ومن يتعرض لشيء من هذا فالطريق أمامه واحد من اثنين إما صبرٌ واحتساب، أو جزع يصاحبه انسحاب وتمرد على إمكانه، وعلى سنن الله وأقداره، وإن التكيف معها والاحتساب خير مآب، فهو من يعرف أن الأقدار لا نعدل فيها ولا نمنعها وإن كنا نتحمل بعضاً من مسؤوليتها، فطالب المدرسة مثلاً يعرف مدرسه برسوبه كنتيجة لإهماله وضعف مستواه، وهذا لا يعني أنه المسؤول عن رسوبه، فالطالب يتحمل جزءاً من المسؤولية.
إن دقة الملاحظة والفطنة لدى من تمعن في هذه السنن تؤكد أن الحياة ليست فراغاً ومن فراغ، فهي مقيدة بسننها والنظام الذي أراده الله لها وللإنسان حيث ينضبط التعامل بأثرهما وفق ما يمكن الإنسان من الاستفادة من المزيد الذي يتكون من إمكانه، والسنن التي توجه هذا الإمكان.
والإنسان أمام المعرفة بين ثابت ومتغير، وفي هذه الحالة فإن السنن حالٌ ثابت، وكذلك حاله النفسي من حيث الأسس والمكونات، وإن طرأ عليها العامل المتغير في النمط والانفعال الذي يفرض نفسه على الإنسان ما لم يرفضه هذا الإنسان ويتجنب الأذى فيه كالغضب مثلاً.
ومن الواضح أن هذا الطرح سعي يمكّن الإنسان من حياة أقل في كبدها، أو المعاناة التي يمكن أن تنبثق من ذلك.
وفي الدعوة لفهم هذه السنن، وفهم حال المكون النفسي عائد برصيد يغني معرفة الإنسان بما له من انعكاسات على الحالة الإيمانية لديه، وفي ممارسته تعبد يتقرب به إلى الله عز وجل، فاستيعاب ما خلق الله من السنن عبادةٌ وتعبد، والمحصلة أن الفائز في ذلك هو الإنسان سواء في وعيه أو في إيمانه أو في اتقاء ما يمكن الاتقاء منه حيث قال سبحانه ?وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ?، ويقول عز وجل(يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
ومن خلال ما جاء في الآيات الكريمة ندرك أن من أسس الحياة الراشدة المعرفة بشيء من خاطر النفس الذي له أثر وتأثير على مسير الإنسان، وبالذات إذا اقترن بمعرفة متميزة بواقع السنن ونظام الحياة.
وفي قول العلي القدير (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) ما ينعكس على واقع الحياة، وعلى معادلاتها المتداخلة الصعبة، وكما أشرنا فإن هذه المعرفة قد تؤدي إلى ما يعين الإنسان على حياة أكثر أمناً وسلاماً، وفي أمنه وسلامه ما يعين على طاعة الخالق، ويمكنه من الإنجاز لما هو معني به، وما ينشغل به من أسباب سعيه ورزقه.
وأتمنى أن نتذكر معاً قول المولى عز وجل (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ)، وقوله سبحانه (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ?، وقوله تعالى ?فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
إن فهم ما احتواه الجوهر له مردود يميز الحركة، بينما الاعتماد على الظن أو الاجتهاد في التفسير من هنا وهناك بغير ما أراد الله يقود إلى ما تتعقد معه الحركة، فالخالق سبحانه وتعالى فيما قدّر وأراد يسّر وسهّل من الأسباب ما يمكن الإنسان من كل نجاح وتفوق في تفاعله مع هذه الأقدار، إن هذا الموضوع يوحي بالعلاقة الوثيقة مع الآيات الكريمة الواردة في سورة (الشرح): (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ . وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ . الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ . فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).
إن الإنسان بقدر ما يتمنى في مسيره من نجاح ومرونة لواجدٌ في سورة العصر منهاج يميز كل شيء متى تقيدنا به: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
وللطاقة الخفية التي قد لا تكون محسوسة بمثل السنن أو التكوين النفسي لكنها ذات أثر وبعد وفعل لا يستهان به، ذلك أن الحب عمارٌ للنفس وطهور لها، وهو متمثل في محبة الخالق سبحانه وتعالى، ومحبة النفس، ومحبة الآخرين، ومتى تمكّن الإنسان من إطلاق هذه الطاقة فهو من الكاظمين للغيظ، والعافين عن الناس فلا رواسب من حقد أو حسد في نفسه تزعجه وترهق وقته وتسيء إلى غيره، فهي طاقة من الحب التي تعمر بها النفس، ويتأثر بها السلوك.
ولعل هذه المعطيات مجتمعة يمرن الإنسان نفسه على فاعليتها، وأن يميز سلوكه بها جميعاً.
إن التصالح مع النفس جميلٌ ولكنه بنصه من خلال مقولة يرددها الإنسان لربما أنها هلامية المضمون، ولعل من تصالح مع نفسه يعتمد علي مثل هذه المعطيات في فعل وتفاعل ليحدد معنى للتصالح مع النفس.
عن أنس قال «كنا جلوساً مع رسول الله فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله مثل، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان في اليوم الثالث قال رسول الله مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام رسول الله تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار: يطلع الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعلم كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟، قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبدالله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق».