التأصيل الشرعي لمسألة ما - بحيث يمكن الحكم عليها ومن ثم إصدار الفتوى بشأنها - يكون بإدخالها تحت عموم دليل صريح مباشر من كتاب أو سنة أو باستصحاب البراءة الأصلية (قاعدة المنع في العبادات والحل في المعاملات). فإن لم يكن هناك دليل صريح مباشر، فتُأصل المسألة باستنباط علة الحكم من الدليل الصريح لتقوم العلة مقام الدليل المباشر، وبعد تأصيل المسألة تصدر الفتوى بناء عليه، ولكن هذا لا يحدث دائماً؛ فالفتوى حكم اجتهادي تطبيقي يختلف باختلاف المعطيات، وتحكمها السياسات الشرعية التي من أجلها قد تخالف الفتوى الدليل الشرعي.
الفتاوى يُستأنس بها ولكن لا يُستدل بها على الأحكام في مواطن الخلاف إلا إذا أمكن تجريدها من السياسات الشرعية التي لحقت بها في زمنها ومحلها. والعلماء الراسخون في العلم عادة ما ينصون على أصل المسألة إذا أرادوا الإفتاء بخلاف الأصل، والأمثلة في ذلك كثيرة؛ فحكم الفاروق عمر في مسألة وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد هو فتوى دافعها السياسة الشرعية، وتخالف الأصل المستند على دليل صريح، ففي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: «إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم» انتهى بلفظ مسلم. فالفاروق نص على أصل المسألة ثم أفتى بخلافه، سياسة منه رضي الله عنه، ولعظم مكانة الفاروق، لم يجرؤ أحد من بعده أن يخالف الفتوى، فاشتهر إجماع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على هذه الفتوى لستة قرون. وعسُر على الناس أمرهم - من أجل تحليل الزوجة - فظهر فقه الحيل وازدهرت بضاعته وسطع نجم شيوخه - شيوخ الحيل - حتى تصدى له شيخ الإسلام ابن تيمية وأرجع المسألة إلى أصلها بعد أن زالت معطيات فتوى الفاروق. واتهم شيخ الإسلام بتحليل الزنا ولاقى في ذلك أصنافا منوعة من الأذى.
إن قوة المنطق عند شيخ الإسلام واستقلاليته الفكرية وعلمه اليقيني بأن الإسلام لا يخالف العقل هو الذي أمكنه من رؤية المسألة بوضوح، ومن ثم جعله يتجاوز إجماع الأمة لستة قرون، فمن أقواله في مثل ذلك رحمه الله: «فمن المحال أن يحرم الشارع علينا أمراً نحن محتاجون إليه، ثم لا يبيحه إلا بحيلة لا فائدة فيها وإنما هي من جنس اللعب» انتهى.
وقد يخالف العالم تأصيله للمسألة والذي يقتضي جوازها فيأتي بلفظ الكراهة لعدم وجود دليل التحريم، كقول الإمام مالك في باب الصرف عن الجلود: لو جُعلت ثمناً. وأحياناً قد ينص العالم على السبب الدافع وراء مخالفة التأصيل، كالشيخ محمد بن إبراهيم في أخذه بجريان الربا في الفلوس المعاصرة على أنه من باب الاحتياط، أو قد ينص العالم على أن التحريم هو من باب السياسة الشرعية لكي لا يتهاون الناس وإن لم يكن له أصل شرعي، كما قاله ابن عثيمين - رحمه الله - فيما اشتهر بين الناس بإلزام الحجاج والمعتمرين بتقديم دم فدية عند تركهم لنسك أو ارتكابهم لمحظور.
وصدق عليه السلام: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». إن مما سُكت عنه، أن كثيراً من المفاهيم الشرعية قد اختلطت فيها الفتاوى المستندة على معطيات سياسية مؤقتة مع تأصيلها الشرعي، والمؤمن التقي لا يجعل الفتاوى أصولاً إلا إذا كانت صادرة عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما العلماء رحمهم الله فقد أعذروا إلى الله مخالفتهم الأصل والإفتاء بخلاف مقتضاه طالما أنهم بينوا أصل الحكم وحيثيات المخالفة.