إن «القرار الشرعي» الموافق للحق؛ هو نفسه الذي يطلق عليه علماء أصول الفقه مصطلح «الحكم الشرعي»، وحقيقته أنه توقيع عن الله تعالى؛ سواء أكان ذلك في المستخرَج من دليلٍ ظاهر، أو دليلٍ يُحتاج معه إلى استنباط خاص، وقد حددت الشريعة أوصاف المؤهلين وحصرت اتخاذ القرار الشرعي فيهم؛
بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)، وقوله (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، ولا أشك أن هذه المقدمة هي من مسلمات باب الفتوى بل من مباني الشريعة الجِسام، وكان لعلماء الصدر الأول ورجاله مواقف لا تُنسى وآثارٌ لا تطمس؛ في تهيُّبِهم من الإقدام على هذه الإمارة والمنصب الرسالي العظيم، فمن ذلك:
قول الشافعي: «ما رأيت أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع لابن عيينة، ولم يكن أحد أسكت منه على الفتيا».وقول الخطيب: «وقل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها؛ إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مؤثر له -ما وجد عنه مندوحة- وأحال الأمر فيه على غيره؛ كانت المعونة له من الله أكثر والصلاح في جوابه أغلب» ا.هـ.
وفي المقابل أيضاً ثبتت لهم جدارة منقطعة النظير عند من بُلي بتولي إصدار القرارات الشرعية على مضض، ومنه قول ابن المبارك: «أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر» والمقام هنا أوسع من فوهة بركان. والناظر إلى الواقع يلتمس أنماطاً متعددة في صناع القرار الشرعي، أدونها في الآتي:
1- نمط تعالمي: يلهث وراء الشهرة وتحصيل عواقبها، أو محبة التصدر في مجامع الناس، دون تكامل مكونات طالب العلم التي رسمها العلماء في المتصدي لإفتاء الناس، وذلك من خلال توزيع أرقام جواله في كل مناسبة، والإجابة عن جميع الأسئلة التي ترده، بل يستنكف من قول اسألوا فلاناً، أو أن يقول «لا أدري»، وجناية هؤلاء الأغرار في قراراتهم على جملة الشريعة معلومة وعقوبة الله في مثلهم مفهومة، وجاء في السِّير أن رجلاً رأى ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق!.
2- نمط صراعي: فهو في صراع داخلي عنيف ليثبت ذاته بأي وجه وعلى حساب من كان، فلا يجد هذا المُلتحف بدثار الشريعة إلا أن يعبر عن ذاته بالتقاط ونشر الآراء الشاذة، أو مصادمة مباشرة لفتاوى كبار العلماء الربانيين، أو اختيار رأي مهجور والاستماتة دونه، وهل يكتفي بذلك؟
لا أظن، بل يتجاوز المرحلة ليعقدَ عمليات مقالية استشهادية -تصريحاً وتضميناً- لتصفية الخصوم، ولن يطمئن باله إلا بالظفر في هذه المعارك الدموية بقراراته التي تثبت أنه «هو»!!، وهنا أتذكر مقولة حكيم بأحد جدران أزقة مدينة جدة القديمة -بعد أن نفدت محاولاته-: (... فهذا خط يدِّي فاذكروني)!!.
3- نمط انتقائي: لا يقبل الحكم الشرعي ابتداءً فيطمئن إليه ويعملَ به مباشرة!؛ لا، بل يجعل عقله -الضعيف المتهالك- مشرحةً وميزاناً لتمرير كل الفتاوى عليه، فإن صادفت هوى في نفسه دافع عنها وأخذ بها وصنع القرار الشرعي بنفسه لنفسه، وبرَّر رأيه بأمور مادية مغلفة بشعار المصلحة الشرعية والواقع!!، وإن خالفت توجهاته فلا أقل من أن يصفها بأنها: (نحن رجال وهم رجال، الآراء تموت مع أصحابها، لو كان حياً لتغيرت فتواه، فيها تضييق على الناس، أحاديث متوحشة... ودواليك)، ولا يخرج صاحب هذا النمط من إحدى دائرتين:
أ- انه صاحب وسوسة وشك : فهو مرض؛ قد يُرجى برؤه.
ب- انه من أتباع المدرسة العقلانية الإسلامية «لبرالي مسلم!!»: وخطأ هذه الطريقة ظاهر.
4- نمط انعزالي: هو ذو الكفاية الشرعية الذي يرى ويبصر أن محيطه محتاجٌ إليه؛ لتغطية الشاغر الإفتائي والإعلامي والدعوي والتعليمي، فيصدر قراره الشرعي الخالي من التسريح أو الإحسان!! بالبعد والعزلة عن ذاك المحيط، ومستنده في جريمته تلك الزهد عن المناصب أو الورع في الدنيا، ولم يدرك أنه قد هيأ فرصة سانحة ليهتبلها غيره من أصحاب التوجهات والغايات المناقضة، يا له من ورع بارد، فلا غرو وقد قيل: قد يجدُ الجبانُ (36) حلاًّ للمشكلة، ولكن لا يُعجبه سوى حلٍّ واحد؛ هو الفِرار.
5- نمط مشتت: هو من طلاب العلم بل قد يتقلد منصباً شرعياً كالقضاء أو الإمامة أو الخطابة وغيرها، ولكنه وليد الحادثة، خدين الراحة والدعة، صاحب تذوق وتصنيف، يشتغل مرة في العلم وأخرى في الدعوة، ومرة في الإفتاء، ومرة في كتابة المقالات ضد من يعدهم أعداءً، وفي الإطراء لشخصيات يتجاسر في الدفاع عن حياضها؛ لأنه تاب على أيديهم، حديثه إيغال في التفاهات والمباحات، أهدافه قد تسلل إليها العجز، وإن صدقت عزيمته تناول مسائل فقهية من صغائر العلم ليظهر إشغاله المجلس بذكر الله تعالى، وقد أضفى هذا المشتت على منهجه قرار القُدسيَّة الحَرَميَّة قولاً واحداً، ولم يعلم -ولعله مارس فن التغافل؟!- بأن اشتغال القدوات بالجزئيات، والأمة تُجتَثُّ من جذورها؛ من أعظم الخيانةِ لها وللمنهج الربَّاني الذي كُلِّف بحَملِه وتبليغه.
6- نمط تطرُّفي (غلاة أو جفاة): الغالي هنا: هو ذلك المتسلح بشهادة عليا أو تزكية رصينة؛ أخذها من مساجدنا وجامعاتنا الإسلامية،، ليتجلى له بعد حين -لانفصام طارئ- أن يتخذ قراراً شرعياً مصيرياً يدخل به الجنة من أبوابها الثمانية، وتزفه حورها إلى رب كريم؛ بأنه وأتباعَه الوحيدون في العالم الذين نزل القرآن ليخاطب عقولهم، ويخالط شغاف قلوبهم، وأنه لا أحقية لبقاء جنس كافر في الوجود، بل إن البلاد السعودية -خاصة- بعلمائها وحكامها في نظره الضبابي مرتدون يجب أن تقام عليهم شعائر التذكية؛ إما بالتفجير أو التحريض، فتباً لهم إذ تنكبوا فكبكبوا وقد قال الله: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
والجافي هنا: عالم شرعي فقيه، لا يحفظ من مقاصد الشريعة إلا: (يسروا ولا تعسروا) وقول الناظم (ومن مقاصد الشريعة التيسيرُ...)، يطير قلبه فزعاً عندما يشاكسه من أفتى له بخلاف ما أراد في سؤاله، همه الأكمل كسب ود الجميع، وكأن ضميره المحتضر لا يعي أن خالق الناس هو أرحم بهم منهم؛ إذ هو من أحل وحرم، وإذا قدم له النصيحة مشفقٌ بادر بجوابه كالمستنكِر الثائر؛ ألم تسمع قول الثوري: « العلم أن تسمع الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل يحسنه»، فيا لها من خيانة، وأحطه من تقرير.
7- نمط الراسخ: هم العلماء الذين ثبتت أقدامهم في مسائل العلم، قدوات في أقوالهم وأعمالهم، صدورهم وورودهم من كتاب وسنة، وكلاء وأمناء الله على دينه ووحيه، يقول العارف العالم ابن القيم: (فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي في الظلماء، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء؛ بنص الكتاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)، هؤلاء هم صناع الحكم والقرار الشرعي؛ الدائر بين الأجر والأجرين.
جعلنا الله تعالى ممن يستبين لهم الحق ويتبعونه.
- عضو الجمعية الفقهية بكلية الشريعة بجامعة الإمام
- عضو هيئة التحقيق والادعاء العام بالمنطقة الشرقية
للتواصل: Mahbishi@gmail.com