وردت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الحاثة على طلب العلم وفضله ومنزلة المعلمين والمتعلمين، منها قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (11) سورة المجادلة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله). وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)... إلى غير ذلك، لأننا لو أردنا تفصيل هذه الآيات والأحاديث لتطلب منا الأمر صفحات وصفحات، ولكن الذي يعنينا من هذه الآيات والأحاديث كيف استفاد منها المسلمون الأوائل؟!
لقد فتحت تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية آفاقاً واسعة لابتكار نظام تعليمي شامل كان له الأثر الكبير في إقامة الحضارة العلمية الزاهرة في العالم العربي والإسلامي، والتي على أكتافها قامت حضارة الغرب الحالية.
لقد ترجم هذا الفهم العميق لمعنى العلم في صورة أنظمة تعليمية مختلفة للمناهج والمعلمين والطلاب ونظام القبول وطرق التدريس ونظام التنويم.
لم تكن هناك مدارس أو معاهد أو جامعات، إنما انطلق التعليم من جميع المساجد الإسلامية، ولم يكن مقتصراً عليه وإنما كان التعليم ميسراً لطلبة العلم في كل مكان، في البيوت والمكتبات العامة والخاصة وقصور الخلفاء وبيوت العلماء وحوانيت الوراقية، وكانت تدرس فيه جميع العلوم ابتداءً من قراءة القرآن الكريم وحفظه وتفسيره، وانتهاءً بالعلوم الطبيعية كالطب والهندسة والرياضيات والفلك. ولم تكن هذه العلوم مقيدة بمناهج محددة، بل كان الطلاب في كل مادة يدرسون كتاباً معيناً، فإذا انتهوا منه انتقلوا إلى كتاب آخر أعلى منه، وهكذا حتى ينتهوا من دراسة الكتب التي يريدونها، وكان يترك للمعلم حرية اختيار الكتب والمواد التي يدرسها وعدد الساعات التي يحتاج إليها، وكانت المناهج تراعي الميول والاستعدادات والفروق الفردية وتأثيرها في النفس والسلوك.
نادى الإسلام بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص في التعليم بين جميع الطلبة دون تفرقة بين الغني والفقير، الرفيع والوضيع، الأسود والأبيض، أو جنس دون جنس، وكانت جميع المساجد الإسلامية تقبلهم دون شروط قاسية أو تعجيزية مثل تحديد نسب مئوية عالية أو اختبارات تحريرية وشفوية، أو مقابلات شخصية، أو قدرات خاصة، كانت تلك المساجد تشترط شرطاً واحداً لقبول الطلاب في التعليم هو الرغبة في الدراسة والمحبة للعلم، وعليه لم يكن هناك حضور وغياب، أو اختبارات دورية أو نهائية، وكان للطالب الحرية في اختيار العلم الذي يرغب في دراسته والحلقة التي يريدها، والشيخ الذي يعلمه، والزمن الذي يناسبه، وكان يعتمد على نفسه في القراءة والبحث والفهم والتمكن من المادة العلمية، وكان التعليم والإقامة والغذاء والعلاج والكسوة والكتب بالمجان، وكان يتنافس الأغنياء والعلماء للإنفاق على الطلبة والمساجد والكتب بالمجان، وكان يتنافس الأغنياء والعلماء للإنفاق على الطلبة والمساجد والكتب والتعليم بسخاء طلباً للأجر من الله عز وجل. وكان يتصدر للتدريس العلماء المعروفون بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، والقدرة على حل المشكلات العلمية والإجابة عن تساؤلات الطلبة واعتراضاتهم، وكان هؤلاء العلماء يلتقطون الطلبة الأذكياء النابهين الذين يتميزون بالعلم والأدب والخلق، ويهيئونهم للقيام بدور التدريس عن طريق إعادة ما قاله العالم في المجلس مرات ومرات حتى يتأكد من قدرته على التدريس فيجيزه لذلك، وهذا يسمى (المعيد) وأخذت هذه اللفظة واستخدمت حتى وقتنا الحاضر في الجامعات كوظيفة تعليمية، والذي لا يصلح للتدريس لا يسمحون له بالتدريس.
وكان العلماء يعلمون العلم مجاناً ولوجه الله تعالى، يفتحون بيوتهم ومكتباتهم ويسخرون أموالهم لخدمة طلبة العلم، وكان طلبة العلم مجتهدين مشغوفين بطلب العلم وفهمه والتمكن فيه.
هذا كله وغيره ساعد في انتشار التعليم في المجتمعات الإسلامية ولم يكن فيها أمياً واحداً بفضل نظامها المرن، حتى جاء القرن السادس الهجري وبدأ نظام المدارس في يد الدول الإسلامية، فتغير شكل التعليم وأهدافه ومناهجه ورجاله ومساراته حتى يومنا هذا.
أستاذ مشارك في التربية الإسلامية بكلية التربية للبنات الأقسام الأدبية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة