Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/04/2010 G Issue 13711
الثلاثاء 28 ربيع الثاني 1431   العدد  13711
 
بعد انحسار مد ما سمي بـ»الصحوة»
رؤية متأملة لمراحل الانفتاح والانغلاق في الإعلام السعودي (2-2)
د. محمد عبدالله العوين

 

فشيئاً فشيئا تكاثرت أوامر المنع بعد حادثة الحرم:

منع نشر صورة المرأة !

منع الأغنية النسائية !

تقليص مساحة الموسيقى والغناء !

تقليص ظهور المرأة في التلفزيون !

منع اختلاط الأصوات الرجالية بالنسائية! أعني حوار الرجل مع المرأة والعكس!

ويبدو أن هذه الحالة كانت مهيأة للاستمرار وربما إلى مزيد من التضييق على الوسائل الإعلامية وعلى الناس - على الرغم من سطوة الإعلام الاتصالي الجديد الذي بدأت آثاره واضحة في المجتمع السعودي قبل أحداث 11 من سبتمبر بخمس سنين تقريباً - هذه الأحداث التي قلبت الأمور رأسا على عقب، وأعادت التيار المتطرف إلى مواقعه القديمة غير المؤثرة بل لنقل على أصح تقدير موضوعي لحجم خسائر هذا التيار بسبب حماقاته المتوالية إنه خسر وجوده الحقيقي وضيع جيلين أنشأهما على تصوراته المتخلفة للحياة وللعصر إلى غير رجعة!.

ولعل من المناسب في هذا السياق ونحن نتأمل تأريخ عقدين من هيمنة الفكر التقليدي أن نتذكر في هذا السبيل عددا من المواقف الطريفة في العمل الإعلامي للإشارة إلى مدى فداحة ما وصلت إليه هيمنة التطرف في تلك الحقبة من تأريخنا الوطني.

كنت أسهم قبل فتنة الحرم بسنوات قليلة في العمل الصحفي تحريرا أو كتابة وأتلمس طريقي في عالم الكلمة، وبعد مران وطول تجريب دخلت بعمق إلى قلب المعترك الصحفي مع مطلع القرن الجديد فمنحني أستاذي خالد المالك ثقته التي أعتز بها وأوكل إلي المساهمة مع الزملاء في الإشراف على الملحق الأدبي في جريدة الجزيرة الذي كان يصدركل يوم ثلاثاء بإشراف الأستاذ حمد القاضي، ومن المواقف الطريفة المثيرة للتأمل والسخرية أنني احتجت إلى نشر صورة الأديبة الروائية غادة السمان في حوار أدبي طويل أجراه مندوب الجزيرة ببيروت معها عام 1401هـ، ولكن رئيس التحرير- عفا الله عنه - رفض بصورة قطعية مواكبة للمتغيرات الجديدة التي حدثت بعد فتنة الحرم نشر أية صورة لهذه الأديبة واكتفينا برسم صورة تعبيرية تقريبية لإضفاء لون من الحيوية في إخراج الصفحة!.

وأتذكر في المجال الإذاعي حادثتين لا أدري كيف ننظر إليهما اليوم بمعايير ما وصل إليه الإعلام السعودي من مكاسبِ ما بعد 11 سبتمبر، أو ربما لنقل من حسنات ذلك اليوم المشؤوم على العالم!

الأولى: كان في الإذاعة مطلع العشر الأولى من القرن الجديد برنامج صباحي مسجل من إخراج الأستاذ عبدالرحمن المقرن، حيث كنا لم نلج بعد إلى عالم البث المباشر لبرامج المنوعات، وكان من فقراته التي استحدثتها مع الزميل عبدالرحمن الاتصال العشوائي بأي رقم هاتفي والدخول في حوار مفتوح وتلقائي مع صاحب الرقم، وكل مرة نختار من ينتهي هاتفه برقم خمسة أو أربعة أو ثلاثة وهكذا، وجربنا أكثر من اتصال مع رجال فلقيت الفكرة صدى جيدا، ولم نجرؤ على أن نوافق نحن على الحوار مع امرأة خوفا من عواقب ذلك؛ لأننا نعلم يقينا أن هذا غير سائغ أبدا تلك الفترة من الزمن! وأردت أن أقتحم ما هو محظور فحين اتصلت عشوائيا ذات صباح ردت علي امرأة وشعرتُ أنا بعفويتها فتم تسجيل الحديث الجميل التلقائي معها وبثه، وفوجئت في اليوم نفسه بما يشبه اللغط في المكاتب حول هذا الحوار ثم بخطاب سري مختوم بالشمع الأحمر في اليوم التالي بالتحذير من تكرار ذلك مع لفت نظر!.

وبعد أكثر من عقد من السنين أردت تكرار التجربة ففعلت ذلك في برنامج «أهلا بالمستمعين» وكان الموضوع عن حقوق المرأة والاتصال حسب الموعد المضروب سلفا مع الدكتور حمود البدر أمين مجلس الشورى آنذاك وزميلتي التي تشاركني الحوار هي الزميلة سلوى شاكر فطلبت منها أن تجري هي الحوار مع الدكتور حمود البدر؛ باعتبار أن القضية المطروحة للنقاش في هذه الحلقة تخص النساء قبل الرجال؛ فوافقت وامتد حوارها المعمق معه ولأول مرة من امرأة إلى رجل في تاريخ الإذاعة اثنتين وعشرين دقيقة، وبث بعد تسجيله بدقائق، وكان الغد يحمل لي ولسلوى خطابي تأبين ولفت نظر لعدم تكرار ذلك!.

أما ما أثارني بحق فهو السماح لمذيعين مسنين مثل جميل سمان - قياسا لحداثتي في السن آنذاك- بالحوار مع الطبيبات في برنامج «طبيب الإذاعة» بينما حين تطوعت لفعل ذلك في أثناء انتدابي إلى المنطقة الشرقية مصاحبا معالي وزير الصحة عام 1403هـ الدكتور غازي القصيبي لم يجز لي ذلك!

ومن الأمور المثيرة للتعجب أن الضغط التقليدي المحافظ وصل إلى المطالبة بفصل الصوتين الرجالي والنسائي في إلقاء الشعر، فقد حدث أن ألقيت في برنامج صباحي و الزميلة مريم الغامدي قصيدة جميلة كتبتها الدكتورة الشاعرة «سعاد الصباح» في مطلع عام هجري جديد، عنوانها: عام سعيد، وكان التفاعل مع النص جميلا وزاده اجتهاد الزميل المخرج، ولكنني فوجئت في يوم غد الأربعاء بخطاب سري مشمع يحمل كثيرا من التأنيب وخصم ثلاثة أيام من الراتب! ومازلت أطالب الدكتورة سعاد بتعويضي عن هذه الخسارة المادية بسبب الاندماج والتفاعل مع قصيدتها الجميلة!

كان هذا يحدث وبجرأة شديدة من التيار شديد المحافظة المتوجس خوفا من كل جديد أو الحذر من التجريب، حتى وصل الأمر بأحد المسؤولين إلى أن يسعى بكل استجابة لمطالب وأمنيات ذلك التيار إلى منع الفواصل الموسيقية في برامج المنوعات! فقلنا له: كيف يتم ذلك وما هو البديل؟ فقال من فوره: بزقزقة العصافير وخرير المياه!.

إن رغبات التقييد والتضييق والحصار في زاوية ضيقة ليس لها حدود ولانهاية، فما أن يتم تحقيق مكسب واحد - حسب اعتقادهم - إلا ويتوجه الطمع التقليدي إلى نيل مكاسب أخرى إلى أن يحدث التغيير الكلي في العرض والجوهر!.

وأرجو ألا يذهب الظن ممن يقرأ هذه الفذلكة العفوية عن مرحلة صعبة وحرجة من تاريخ الإعلام السعودي أن افتعال حضور المرأة في العمل الإعلامي غاية في ذاته؛ كلا! فذلك غير وارد؛ بل الطبعي أن يكون حضورها متحققا بعفوية وبدون ترصد ولا تخطيط مسبق، لأنها هي هكذا في مجتمعها، وتغييبها عن الوسيلة الإعلامية بهذه الصورة الإقصائية مدعاة إلى التعجب والسخرية المؤلمة، فهي موجودة بطبيعة الحال في العلاقات الاجتماعية السوية، وفي الأسواق والمشافي ومناحي الحياة المختلفة، ولم يتم فصلها بصورة حادة أو السعي إلى ذلك وإضفاء طابع ديني على هذا السعي إلا في المرحلة الأيديولوجية الصحوية التي انقلب فيها المجتمع السعودي رأسا على عقب بتأثير حركة جهيمان والمد الإخواني الحزبي وإحباطات «العرب» واستبدال ما هو عربي محبط مهزوم بما هو إسلامي واعد، ونشوء الجماعات الجهادية المؤللة في أدغال أفغانستان وتجمع كل مشرد ومتطرف في تلك المعسكرات الشاحنة المحتقنة ليعودوا من بعد إلى مجتمعاتهم معاول هدم وتخريب وفرقة وتحزيب وتراجع عن كل منجز حضاري حققته هذه الشعوب في مراحلها السابقة على ما يسمى بالصحوة !.

إن الحسنة الوحيدة من هجمة شرذمة الشر على الأبراج في الحادي عشر من سبتمبر، ووجود أسماء خمسة عشر ضالا متطرفا من بلادنا مع مرتكبي هذا الحادث الإجرامي أنه وضع حدا نهائيا لمرحلة الغلو والتطرف التي واكبت حياتنا بعد فتنة الحرم، وأنه أذن لنا جميعا دولة وشعبا بفتح هذا الملف المغلق النازف، وأن هذا القدر الدموي الأسود على سوئه ووحشيته ربما كان دافعا إلى خير كثير من الشعوب على مستوى العالم، ومنها بلادنا، فقد ضيق هذا التيار المغالي ما كان واسعا، ونفر وأبعد وكره ومايز وأغلق وابتلى وسلب واستقطب ورمى إلى المهالك وبؤر التوتر في محارق مشتعلة متعددة من العالم بشباب في عمر التورد والزهو والإقدام والتضحية، وكان الحق استغلال تضحياتهم وإقدامهم في سبيل الخير لوطنهم وأمتهم، بدلا من دفعهم إلى الانتحار العشوائي المجاني الرخيص، ليكونوا وبالا ونقمة بدلا من أن يكونوا خيرا ورحمة!.

الإعلام السعودي اليوم - رغم ما يحتاجه من دعم ومن كوادر ومن إعادة النظر في بنيته التحتية - يسير بهدوء وفق رؤية معتدلة ومنفتحة، مستكملا ومتواصلا مع خطوات التصاعد والبناء والانفتاح التي بدأت قبل عام 1400هـ أما العقدان التاليان لمطلع القرن؛ فقد كانا عقدي الاختبار المر لما سمي وهما بـ»الصحوة» وهي في واقع الأمر كانت «غفلة» أو صدوداً عن العالم وانكفاء على الذات وعزلة عن الحياة وما كانت تضج به من متغيرات وتحولات جديدة على المستويات السياسية والفكرية والتقنية الاتصالية، وبعد نيل ذلك التيار الصحوي - إن صحت النسبة - كل ما يطمح إليه لم يقدم سوى تجارب مرة من الفشل والتخلف والانغلاق والانكفاء والتهييج والشحن وتهيئة جيلين من الشبان للدخول في أتون مواجهة مريرة حمقاء مع الواقع المحلي ومع العالم كله في كل مكان ملتهب أو بؤرة مشتعلة.

عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.


ksa-7007@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد