إن هذا الدين الإسلامي دين الشمول والكمال والتمام، والصلاح والإصلاح لكل زمان ومكان وأمة، فما من خير إلا ودلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه، وهذا ما أخبر به من اختاره واصطفى رسوله فقال سبحانه: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (89) سورة النحل، وقال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ? الأنعام: 38، والله سبحانه له أن يصطفي ما شاء من العبادات والأزمنة والأماكن والأشخاص: ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ? (68) سورة القصص، قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «فليست تنزل بأحد من دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها».
ومن حكمة الله جل وعلا أن نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها فيها من الشمولية والمرونة ما يستوعب المستجدات والنوازل والقضايا الحادثة إلى قيام الساعة، لا يشذ عنها شيء من تصرفات المكلفين، ودور العلماء والمجتهدين النظر في هذه النوازل بما مكنهم الله بقدرات وإمكانات، وتوظيف ما يستجد من تقنيات وعلوم ومعارف ومكتسبات، وبذل الجهد في فهم واقعها، وتصورها وإدراكها على وجه صحيح، حتى يظهر حكم الله في كل نازلة، ويحصل البيان للناس؛ على اعتبار أن هذه وراثة العلماء عن الأنبياء.
وما من شك أن الحياة المدنية سجلت تطوراً مذهلاً، وقفزة معلوماتية، وصورة متقدمة من التقنيات المعاصرة أثرت بدورها على مجالات الحياة المختلفة، وهي آفاق واسعة تتطلب تضافر جهود العلماء والباحثين والمختصين في بيانها، وتنزيل حكم الله فيها، وهذا دور لا يمكن أن يدرك بالمقدمات الفقهية، والجوانب التأصيلية فحسب، بل صار التخصص سمة العصر، وأصبح التخصص الواحد يمارس من خلال تفريعات كثيرة، ومن القواعد المقررة أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن هنا كان لهذه الجامعة العريقة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية إسهام فاعل في معالجة القضايا المعاصرة عبر وحداتها وفعالياتها ومراكز البحث فيها ومن خلال أعضاء هيئة التدريس فيها الذين أسهموا ويسهمون بعلمهم وخبرتهم ومعايشتهم لكثير من القضايا المعاصرة في تقديم رؤية مؤثرة في المعالجة، وهي جهود تبرز السياسة التي تقوم عليها الجامعة الهادفة إلى المواءمة بين الأصالة والمعاصرة، أصالة المبادئ والأسس والثوابت، ومعاصرة الأساليب والمناهج والطرائق، فهي تستمد قوتها من عراقتها، وسعيها لخدمة الأسس التي كانت عليها هذه البلاد المباركة والوطن الآمن، وتعمل على مواكبة التطورات، والسعي إلى الريادة العالمية في رؤية شمولية تعتمد الماضي، وتستشرف آفاق المستقبل البعيد، وقد أثمرت هذه السياسة توسع الجامعة في أهدافها ومنطلقاتها ورسالتها بما يخدم الثوابت التي قامت عليها ، لتعزيز هذا الدور الريادي من خلال إنشاء الكليات الجديدة، التي تعنى بالعلوم التجريبية، كما أنشأت عدداً من مراكز البحوث لخدمة القضايا المعاصرة، ولعل أبرز شاهد على ذلك احتضانها مركز الملك عبد الله للدراسات الإسلامية وحوار الحضارات، الذي يضم عددا من الوحدات تعني بالجوانب المختلفة للقضايا المعاصرة، وكذلك مركز التميز البحثي في فقه القضايا المعاصرة، وما صدرت موافقة سماحة مفتي عام المملكة رئيس هيئة كبار العلماء عليه من إنشاء كرسي بحث متخصص باسم سماحته يعنى بالقضايا الفقهية المعاصرة، وهذا جزء من جهود هذه الجامعة في خدمة القضايا المعاصرة، وامتداداً لهذا الدور الرئيس، وتحقيقاً لهدف الجامعة في خدمة المجتمع ومشكلاته ونوازله، وأداء لرسالة الجامعة في تقديم الحلول لمختلف المشكلات المعاصرة فقد وجهت فعالية من أبرز الفعاليات التي تشهدها الجامعة لمعالجة قضايا نازلة، ومسائل حادثة في مجال من أهم وأبرز المجالات التي ترتبط بالحياة، إنها القضايا الطبية ذلك العالم المتفرع المتشعب المتطور، الذي لا نبالغ إن قلنا إنه يشهد تطورات يومية لقضاياه وتخصصاته، وهو بحاجة إلى رؤية تكاملية تجمع الخبرة الطبية، والنظرة الشرعية لمتابعة التطور الذي يستلزم بيان الحكم الشرعي المؤصل فيه.
ولذا دعت الجامعة إلى عقد مؤتمر فقهي طبي يشارك فيه نخبة من العلماء والباحثين والمتخصصين والأطباء المتميزين من داخل المملكة وخارجها، لتقديم حلول ناضجة، ورؤى متميزة، وكانت الاستجابة منهم كما هو متوقع، حيث تفاعل المعنيون بهذه القضايا مع الدعوة، ولقيت استجابة كبيرة، وقدمت للمؤتمر أبحاث كثيرة متميزة، أخضعت لقواعد ومعايير التحكيم العلمي المعتاد في مثل هذه المناسبات، وهي إضافات تستحق الإشادة، تقدم للمهتمين بالدراسات الفقهية الطبية تتناول بالعرض والتحليل والاستنباط أهم هذه القضايا التي ما زالت بحاجة إلى مزيد نظر وتأمل، ولتكون الاستنباطات الفقهية مواكبة للتطورات الطبية.
وفي الختام فإن هذه الفعالية المباركة والمؤتمر الهام لم يكن لينعقد ونراه واقعاً لو لا فضل الله أولاً، ثم تلك الأيادي البيضاء، والدعم اللامحدود والوقفات المشهودة من ولاة أمرنا الأوفياء، وقيادتنا الحكيمة. ولذا فإنني أغتنمها فرصة سانحة لأقدم الشكر والعرفان والامتنان لأولئك الرجال الأفذاذ، والقادة الأماجد على المواقف المشرفة، والصفحات المضيئة في تأريخ الجامعات السعودية، وجامعتنا المباركة على وجه الخصوص وعلى رأسهم مليكنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود -أيده الله بتأييده-، والشكر موصول لمقام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الدفاع والطيران والمفتش العام على موافقته السامية على رعاية هذا المؤتمر ودعمه، ويمتد الشكر لأمير السنة والفكر صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على تتويج الجامعة وقيادتها بالموافقة على تشريف حفل افتتاح أعمال المؤتمر، ورعايته نيابة عن سمو ولي العهد الأمين -حفظهم الله وأدام علينا نعمة ولايتهم-.
كما لا يفوتني أن أشكر معالي وزير التعليم العالي الأستاذ الدكتور خالد بن محمد العنقري على جهوده السديدة في دعم الجامعة وجهودها العلمية ومناسباتها الثقافية.
كما أشكر إخواني المشاركين في المؤتمر الذين قدموا أبحاثهم العلمية، وأوراق عملهم، وكذلك الأخوة المدعوين على إجابتهم الدعوة وحضور المؤتمر، والشكر موصول أيضاً لجميع الأخوة العاملين في لجان المؤتمر ورؤساء الإدارات على ما بذلوا من جهد وما أنجزوا من عمل، وأسأل الله بمنه وكرمه أن يبارك في الجهد ويسدد الخطى، وأن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، ويحفظ بلادنا من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وتربص الحاقدين المعتدين، وأن يجعلها آمنة مطمئنة رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رئيس اللجنة العليا للمؤتمر