تتعدد أشكال العنف الإنساني، وتختلف باختلاف التقاليد والثقافات، والعنف الإنساني في مضمونه غير مرتبط بصورة مباشرة بالدرجة العلمية، فهو حالة موجودة في مختلف الأوساط، لكن الذي يختلف هو أساليب العنف، التي تتنوع أدواتها من بيئة إلى أخرى. فعلى سبيل المثال قد تظهر في البادية من خلال الأدوات الحادة والأسلحة النارية، بينما يظهر في مجتمع القرية في صور الاستهزاء والاحتقار. بينما يظهر في المؤسسات المهنية والإدارية في نماذج متعددة، إذ تطغى أساليب التسلط على الأساليب البدائية. وقد يكون العنف الإداري في أسلوب ممارسة الضغط والتسلط والمضايقة في مكان العمل من خلال اتباع أساليب ملتوية، من أهمها استخدام القنوات السرية ضد الموظف، وتحريض الآخرين، وتصيد الأخطاء الصغيرة وإظهارها في حجم أكبر، أو التلاعب بالأنظمة من أجل إيصال الموظف إلى حالة الإحباط، وهو ما يجعله مهيئاً لأن يترك وظيفته هرباً من بيئة العمل غير الصحية. والمؤسسات المتميزة هي التي تؤسس لبرامج حماية موظفيها من أساليب التسلط الإداري.
أيضاً يظهر ذلك في المجالات الأكاديمية، والتي قد تشهد أشد أنواع التسلط والعنف في مجال التنافس على الدرجات العلمية والبحوث. لذلك قد يستغل بعض المسئولين نفوذهم من أجل وضع أسمائهم على أوراق بحثية لم يشاركوا فيها، فهم يستخدمون سلطاتهم الإدارية على مرؤوسيهم من أجل سرقة إبداعاتهم. ويؤدي غياب أنظمة تدافع عن حقوق هؤلاء إلى جعل التسلط أمراً مألوفاً بين الأكاديميين، وطريقة للعيش عند المغلوب على أمرهم.
كذلك تدخل معاملة النساء في ظاهرة العنف في مدلولاتها الحديثة، واللاتي قد يصبحن ضحية مباشرة للعنف الأسري، فثقافة الرجل التقليدية كان تسمح بممارسة ضربه النساء والأطفال كطريقة لإصلاح سلوكهم، لكن ذلك لم يعد له مكان في التربية الحديثة. ومن المفترض أن يتم تأسيس برامج للتوعية ولتلقي شكاوي العنف ضد المرأة، وأن تدخل مفرداته إلى نظام المحاماة والتشريع، وذلك من أجل وضع قوانين ضد ممارسة العنف ضد النساء والأطفال.
كذلك تنتشر ظاهرة العنف الجسدي بين الطلاب في المدارس، وهو ما يستدعي وضع لائحة لحماية الطلاب والطالبات، وأن يتم إجراء استفتاءات بين التلاميذ عن حالات العنف التي يمرون بها. كذلك يدخل في ذلك التحرش الجنسي والاغتصاب، إذ يُعدُّ ذلك جريمة تستحق العقاب الشديد..
وتأتي التوعية عن مختلف أنواع العنف كأهم وسيلة لكشف ما يحدث من عنف في محيط المدرسة. ويدخل في ذلك علاقة المعلم والطالب، وأساليب التسلط التي يمارسها المعلم أحياناً ضد الطالب، لذلك على إدارات التعليم توعية التلاميذ على أهمية التعبير والتبليغ عن التسلط والعنف التي تواجههم في محيطهم الدراسي.
لكنني أعتقد أن أكثر أنواع العنف شيوعاً هو العنف اللفظي، والسبب أن البعض اعتاد على الشتم واللعن عند حديثه عن الآخر، ووصل به الحال أن يكون طبعاً لا يفارقه، ومنه ينتقل إلى الأبناء، مما يجعل منه طريقة للاتصال مع الآخرين، وهي ظاهرة منتشرة بين الجماهير الرياضية، وتدخل فيها غوغائية الجماهير التي تتأثر بالكلمات والإيماءات التي تصدر من نجوم الرياضة والإعلام. وقد نحتاج إلى أكثر من جمعيات توعوية تعمل من أجل التواصل مع الجماهير عن بشاعة وعنف اللفظ أحياناً وعن متلازمة الحضارة بحسن الحديث والابتعاد عن الشتم واللعن.
في نهاية الأمر أكاد أصل إلى قناعة أن التعليم المنهجي والحصول على أعلى الدرجات العلمية لا يعني دائماً التحضر، فالعنف يسكن داخل بعض العقول، وإن وصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية، ولعل الاختلاف يمكن في تطور تلك الأساليب في المؤسسات الأكاديمية والإدارية، لكن ذلك لا يعني الاستسلام لها، ولابد من وضع لوائح تنظيمية من أجل الوصول إلى أولئك الذين لا يتوقفون عن إلحاق الضرر بالآخرين من خلال ذهنية التسلط. كذلك أن نُدرك أن الاستبداد والتسلط السياسي له أكبر الأثر على عقول العامة، فالقمع يولِّد القمع، والاستبداد هو مصدر كل أدوات التسلط في المجتمع.