الرياض - خاص بـ (الجزيرة)
|
الانتماء هو انتساب حقيقي للدين الإسلامي، والوطن.. فكراً ومشاعر ووجداناً.. واعتزاز الفرد بالانتماء إلى دينه من خلال الالتزام بتعاليمه، والثبات على منهجه، وتفاعله مع احتياجات وطنه. وتظهر هذه التفاعلات من خلال بروز محبة الفرد لوطنه، والاعتزاز بالانضمام إليه، والتخطيط من أجله.
|
من خلال ذلك، كيف يمكن أن ننمي الانتماء الوطني لدى الناشئة في المجتمع المسلم؟ وكيف نقوي الرابط بين أفراد الوطن الواحد فيه، وإرشادهم إلى التآخي والمحبة والتعاون للصالح العام، المتمثل في قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}؟.. طرحنا هذه القضية على عدد من المختصين.. فماذا يقولون؟!
|
لنعلنها شعاراً: لنا.. ونحن
|
تقول د. أسماء بنت سليمان السويلم أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة: لقد جاء الإسلام حريصاً على توطيد أواصر المحبة والتآلف في المجتمع المسلم، والشعور بالجسد الواحد؛ لذا عَدَّ ذلك من قواعد الدين العظيمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَيْن».
|
وهذا التأليف للقلوب، وجمع الكلمة، والشعور بالانتماء الوطني بين أفراده، يبدأ غرسه في الناشئة من الأسرة حينما تربي أولادها على ذلك، ليس بصورة نظرية، أو عبارات طنانة، بل بسلوك يومي، بداية باجتماع أفراد الأسرة على وجبة الطعام، وانتظار اكتمال أفراد الأسرة (الجماعة)، ليُبدأ في تناول الطعام؛ تربية على الانتماء وحسن الجماعة، وكذا مشاورة الأولاد في شؤون المنزل من اختيار أثاث أو قضاء إجازة، وإشراكهم في الإعداد والتنفيذ؛ حيث يربى الفرد منذ صغره ليكون مساهماً فاعلاً في محيطه، حريصاً على مصلحة الجميع لا مصلحته فقط، حتى إذا كبر هذا الطفل الصغير وشبّ على ذلك كبر معه هذا الشعور بالانتماء، وشبّ معه؛ ليحمله معه عند تعامله مع وطنه.
|
ومثله الشعور بالألم الواحد؛ فعلى الأسرة أن تربي الطفل أنه إذا حدثت مشكلة ولو صغيرة لأحد أفراد أسرته (ضياع كتاب أخيه، أو لعبة أخته مثلاً)، عليه أن يساهم مع أسرته لحل هذه المشكلة، ثم إذا انتقل الطفل الصغير من محيطه الصغير (الأسرة) إلى المحيط الذي يليه (المدرسة)، وجد الأسلوب نفسه الذي يربي على حس الجماعة، والشعور بالانتماء الوطني، ليس عن طريق مادة دراسية يتيمة تدرس في صفوف متأخرة (مع أهمية ذلك)، بل لا بد أن يعيش الطفل في مدرسته هذا الشعور بالوطنية في مواقف الحياة اليومية، فإعارة طالب قلماً لزميله تربية على الانتماء الوطني، وتقوية لروابط الأخوة في المجتمع، وإرجاع المستعير للقلم وحرصه على ذلك تربية على المسؤولية، وتشجيع المعلم لهذا السلوك من الطرفين تعزيز لذلك كله.
|
|
وتضيف د. أسماء السويلم قائلة: إنَّ تربية الطلاب (أفراد المجتمع) على الحرص على الفصل الدراسي، من كراسي وطاولات ونظافة وممتلكات المدرسة، في هذا تربية للشعور بالولاء، والحرص على هذا الوطن. إنَّ توجيه الطلاب وتوعيتهم من أهاليهم ومعلميهم بأن جدك واجتهادك في دراستك، وتفوقك في تحصيلك.. وطنية، وكذا تطبيق بعض طرائق التدريس الحديثة، مثل تعلم الأقران، أو العمل كفريق، التي تعزز روح الجماعة، وحس الانتماء، والحرص على المصلحة العامة، ومصلحة الكل.. كل ذلك يحقق النجاح للكل.
|
ولكن المشكلة حينما تعمد الأسرة، والمدرسة، والمجتمع في أسلوب تعاملهم مع الناشئة إلى وضع حدود وفواصل تقطع الُلحمة الوطنية، وتخلخل التربية على الجماعة، بأن يُبدأ في التعبير ب»أنتم - وأنا»، فتخاطب الأسرة ولدها بعبارة «هات لي في الشهادة ممتاز»، ويأتي الابن لأمه وأبيه وبالأسلوب نفسه «أنا - وأنتم» ويقول: «أتيت لكم بممتاز»، أو «فعلت لكم كذا وكذا»، وهكذا دواليك، تتغير الأعمال، وتكبر الإنجازات، ولكن الأسلوب في التعبير، وطريقة النظر للأمور واحدة لا تتغير، وهي: أن الفرد يظن (صغيرا أو كبيرا، موظفا أو طالبا) أنه حينما ينجز عملاً أو يشارك في العمل التطوعي، أو يتفوق في دراسته أنه «لي أو لكم»، مع أن حقيقة الأمر أن هذا الإنجاز والتفوق هو «لنا - ونحن».. نعم، إنه لي ولك وللمجتمع، فأي خير يُعمل، وبناء يُبنى، واختراع يُنجز، فإنه ليس لمخترعه فقط، وعامله، ومنفعته الخاصة، بل كل نجاح وإنجاز من فرد من أفراد المجتمع هو في حقيقته «لنا» للمجتمع بكل شرائحه؛ فهي مستفيدة منه بشكل أو بآخر.
|
ومن الأفعال التي يُنَشِّئ عليها بعض الناس أبناءهم على مفهوم «أنا وهم»، لا على مفهوم «لنا ونحن» السلوك المتكرر المؤلم من رمي المخلفات في الشارع أثناء عبور السيارة، كأن النظافة مطلوبة في سيارتي «أنا» أما خارجها «هم» فلا تخصني..! أين الوطنية والشعور بالجسد الواحد، واستيعاب مفهوم «لنا - ونحن»؟.. في المدرسة حينما يفسد الطالب بعض ممتلكات مدرسته أو صفه لا يحرك الأهل ساكناً، ولكن الويل له إن أفسد ثوبه أو حقيبته، على مفهوم «أنا - هم».
|
لنعلنها شعاراً لنا في تربيتنا للناشئة بأن يربوا على مفهوم «لنا ونحن»، ونكف عن تربيتهم على «أنا وهم»؛ لنحقق الانتماء الوطني الحق.
|
|
أما أ.د. عمر بن صالح العُمري، رئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فيقول: قديماً ومنذ الصغر كنا نسمع مقولة كان الكبار قبل الصغار يرددونها في المجالس العامة وفي المجالس الخاصة وفي الطرقات «حلال حكومة»، وكانوا يقصدون بذلك امتهان الشيء المتحدث عنه والتقليل من شأنه بل وربما الدعوة إلى عدم التردد في النَّيل منه أو إتلافه.
|
تذكرت هذه المقولة وترددت في ذهني كثيرا حينما روت لي البنت (أحلام) - وفقها الله - حادثة استنكرتها حدثت في شهر رمضان الماضي.. تقول أحلام: في حافلة النقل الجماعي، وفي القسم النسائي، كان هناك طفل يعبث عبثاً كبيراً في الحافلة بقصد إتلاف بعض محتوياته، ولم تتردد أمه في زجره ودعوته للكف عن ذلك.
|
ليس هذا هو المثير في الحادثة؛ فربما أن عبث الأطفال أمر طبعي وحاصل في كل مكان وزمان ودولة، إنما المثير حقاً هو الرد من الطفل على أمه، حيث بادرها قائلاً: لماذا أتوقف عن العبث والتخريب وقد دفعنا لهم ريالين عن ركوبنا الحافلة؟! ثم أردف مسترسلاً بحديث معناه يتلخص بالمقولة القديمة «حلال حكومة».
|
هذه الحادثة وغيرها مما يمر بنا من قصص وحكايات عديدة، أبطالها الكبار والصغار من الرجال ومن النساء، تدلنا دلالة واضحة على أن هناك خللا وقصورا كبيرا في التربية.
|
ولعل أكبر ما يلحظ في هذا الجانب القصور الواضح عند الكثير في تربية الأبناء والبنات على حب الوطن.
|
ولسائل أن يسأل: لماذا التركيز على حب الوطن؟
|
أقول: إنَّ حب الوطن أساس مهم لكثير من اللبنات التربوية الأخرى، والتفريط فيه ربما يقود إلى تفريط في لبنات تربوية لا تقل أهمية عنه.
|
فحب الوطن قبل كل شيء دليل على الإيمان، خاصة ونحن - ولله الحمد - نتمتع بوطن فريد في زماننا.
|
|
وطن نابع من أساس قويم اتحدت فيه مبادئ الدين ممثلة بالحركة أو الدعوة الإصلاحية التي نادى بها الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب مع السلطة الدنيوية أو السياسية آنذاك التي تزعمها الإمام المؤسس للدولة السعودية محمد بن سعود، رحم الله الجميع؛ فكانت تلك النبتة المباركة، وجاءت هذه الغرسة بثمرة طيبة هي هذه الدولة المباركة التي لا تزال - ولله الحمد - ترفع شعار التوحيد عاليا في دستورها وشعارها.
|
وطننا - ولله الحمد - تشرف عبر السنين بخدمة البقعتين المقدستين عند المسلمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة)؛ ما زاده شرفا وعلوا بين الأمم.
|
* محبة الوطن والولاء له ولقادته مبدأ من مبادئ الإسلام التي لا مساومة ولا تفريط فيها.
|
وليعلم الجميع أن هذا الوطن مستهدف من أعداء الإسلام والمسلمين؛ ولذلك فعلينا المحافظة عليه والسعي للدفاع عنه بكل ما أوتينا من قوة مادية ومعنوية، وتربية أبنائنا على ذلك، والوقوف في وجه أعدائه لإحباط مكرهم ومخططاتهم الرامية إلى تدميره.
|
وإننا بتربية أبنائنا على حب الوطن نغرس في نفوسهم جانباً ومبدأ مهماً من مبادئ ديننا الحنيف الذي لا يجاريه أي دين ولا يدانيه أية مبادئ، ويكفينا فخراً في عقيدتنا مرتبة الإحسان التي تسمو بالإنسان وتحلق به إلى أعلى مراتب المثالية والرقابة الذاتية المبنية على الإيمان والخوف من الرقابة الإلهية، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك»؛ فلو كل منا تمثل هذا المبدأ لعاش الوطن والمواطن بسلام.
|
|
ويقول د. خالد بن عبدالله المزيني الأستاذ بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن: إنَّ الانتساب إلى الأرض والوطن صفة فطرية إنسانية، توجد مع الإنسان حيث وجد، وقد كان العرب قبل الإسلام يفتخرون بأوطانهم، ويتمدحون بالدفاع عنها، والذود عن حياضها، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
|
ونوجد نحن أمنعهم ذماراً |
وأوفاهم إذا عقدوا اليمينا |
يعني بالذمار ما يحق على الرجل أن يحميه من حريم وغيره؛ لأنه إذا تأخر عن الدفاع عنه صار متذمراً مستحقاً للذم.
|
وقد كان أعراب الجاهلية يأنفون من التوطن بأرض، أو البناء في قرية أو مدينة، فقد كانوا يقطنون الخيام، وينتجعون مواقع القطر، ويتجافون عن ديار الجدب والمحل، حتى جاء الإسلام فحث على سكنى المدن وتمصير الأمصار، ونهى عن التعرب وسكنى البوادي وحياة الترحل؛ لارتباط المواطنة بنشر العلوم وتبادل المعارف وتهذيب السلوك والأخلاق والاجتماع على الخير وعمران الحياة.
|
إنَّ انتساب الإنسان إلى موطنه ليس انتساباً عفوياً إلى نقطة جغرافية على الخارطة، بل هو أعمق من ذلك، إنه ارتباط واعٍ، وانتماء نفسي وجسدي بالمحيط الذي نشأ فيه وترعرع، وبه تتحقق ذاته، وتحيا نفسه، فلقد خبَرَ العرب قبل غيرهم حياة التشرذم، وعانوا من الشتات، عبر حروب جاهلية مريرة، نشبت بينهم على أساس الوطن والمنتجع والثروة المائية والحيوانية؛ فهم أعرف الناس بقيمة الأرض، التي تجمع نفوسهم، وتلم شعثهم.
|
هذا ما كان من إنسان الجاهلية الذي أخلص لأرضه وموطنه، فلما جاء الإسلام زكى هذه الروح بمنظومة القيم الإسلامية، التي تجعل من الانتماء إلى الوطن انتماء إلى القيم العالية، كالعدل في مقابلة الظلم، والحق في مقابلة الباطل، والكرم والإحسان في مقابلة الشح والبخل.. هذا إذا كان الإنسان خلواً من الإيمان، فأما إذا أخذ الانتماء بُعداً روحياً إيمانياً، بأن كان الوطن هو مأرز الإيمان، ومنطلق الرسالة، كأرض الجزيرة العربية، وبلاد الحرمين الشريفين، فإن الشعور الوطني حينئذ يكون أكمل وأسمى.
|
|