السماحة خلق نبيل، والدفع بالتي هي أحسن صفة عباد الرحمن الذين رزقهم الله الصبر والحظ العظيم كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ () وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} والصبر إنما يكون بالعلم بالآثار النافعة المترتبة عليه، وأما من لم يحط بعاقبة الصبر، فإنه لا يتمكن من فعله كما قال تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} والعلماء الراسخون لهم من هذا الخلق العظيم نصيب وافر، فهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.
ومن أولئك العلماء الراسخين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد علم -رحمه الله- أن الحق ممتحن ومنصور، وأن الحق لا يعلق بالأشخاص، وإنما بالدليل والبرهان، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ولو علق الحق بالأشخاص، لمات الحق بموتهم، والحق ليس بحاجة إلى أشخاص لا يحسنون إلا الصخب والضجيج، والسباب والشتائم، ورمي الفتيل هنا وهناك.
لقد أدرك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن سنة الله الكونية اقتضت الصراع بين الحق والباطل، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}، وكما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، كما أدرك أن كثيراً من المختلفين جهال في حقائق ما يختلفون فيه، وإلا لو حرر محل النزاع، واستحضرت الأدلة، وأحسن الاستدلال، وحسنت النية، لزال الخلاف.
من أجل ذلك نرى أن شيخ الإسلام ابن تيمية يعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعفو ويصفح، فليس لديه تصفية حسابات مع أحد -رغم كثرة خصومه وأعدائه-، بل يحسن إلى من أساء إليه.
قال رحمه الله: (هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله فيَّ بتكفير، أو تفسيق، أو افتراء، أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتماً بالكتاب الذي أنزله الله، وجعله هدى للناس، حاكماً فيما اختلفوا فيه).
وقد ابتلي شيخ الإسلام بمعاصرين حسدوه، وآذوه، وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، فسجن ظلماً وعدواناً، فكتب لأصحابه وهو في السجن: (لا أحب أنِ يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليّ، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي، وأما ما يتعلق بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكم الله نافذ فيهم، فلو كان الرجل مشكوراً على سوء عمله لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية، لما يترتب عليه من خير الدنيا والآخرة، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه، التي لا يقضي للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له...).
ولما زالت إمارة الجاشنكير وقُتل، وآلت الإمارة إلى ابن قلاوون، أراد ابن قلاوون أن يقضي على أولئك العلماء الخصوم، بسبب فتاويهم السابقة بعزله ومبايعة الجاشنكير، وأراد أن يأخذ فتوى من ابن تيمية بذلك، فقال لابن تيمية: إن هؤلاء هم الذين ظلموك وآذوك، وأهدروا دمك.
فقال ابن تيمية للسلطان ابن قلاوون (إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم من العلماء الأفاضل) فقال السلطان: (لكنهم آذوك وأرادوا قتلك مراراً) فقال ابن تيمية: (من آذاني فهو في حل، وأنا لا أنتصر لنفسي)، ومازال يقنع السلطان بأن يعفو ويصفح عنهم، حتى استجاب لهم، وعفا عنهم عندئذٍ قال القاضي ابن مخلوف - أشد خصوم ابن تيمية: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنّا).
وصدق الله إذ يقول: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، وقد رفع الله ذكر ابن تيمية، واستفاد الناس من علمه وسمته، وأما خصومه فنسيهم الناس، ذلك أن أهل السنة يموتون، ويحيا ذكرهم، لأنهم أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان له نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وأما أهل البدعة فإنهم يموتون، ويموت ذكرهم، لأنهم شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: المقطوع. فأسأل الله أن يهدينا لمحاسن الأخلاق والأعمال، وأن يجنبنا مساوئها.
* حائل