إنَّ الأجواء عامرة بالأحاديث - خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة - عن إعادة صياغة الدبلوماسية لتتناسب مع القرن الحادي والعشرين؛ فأخيراً تحدثت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وزعيم حزب المحافظين البريطاني ديفيد كاميرون عن تركيبة جديدة تشتمل على الدفاع، والدبلوماسية، والتنمية.. وأشار كل منهما إلى أن السياسة الخارجية التي تبنتها الولايات المتحدة وبريطانيا في السنوات الأخيرة كانت تركز على نحو أكثر مما ينبغي على العنصر الأول على حساب العنصرين الأخيرين.وفي الوقت نفسه أنشأ الاتحاد الأوروبي جهازاً جديداً للسياسة الخارجية أطلق عليه هيئة العمل الخارجي الأوروبي، ومن المفترض أن تمثل هذه الهيئة المصالح المشتركة لبلدان الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين. صحيح أن خطوط السلطة التي تميز الدبلوماسيين الأوروبيين الجدد عن وزراء الخارجية المعتادين على المستوى الوطني ما زالت غير واضحة، ولكن هيئة العمل الخارجي الأوروبي أصبحت تشكل حقيقة واقعة.
وهناك خطط مماثلة في آسيا وأماكن أخرى من العالم، ولكنها ما زالت قيد البحث والدراسة، ولكن البلدان الأعضاء في منظمات مثل المنتدى الإقليمي لرابطة دول جنوب شرق آسيا، والاتحاد الإفريقي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، تتحدث على الأقل بقدر متزايد من الجدية عن تنسيق السياسات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك.منذ اختراع الدبلوماسية الحديثة في عصر النهضة بإيطاليا اكتشفت الدول ضرورة تبادل المبعوثين بغرض إبرام الاتفاقيات (أو حلها)، سواء عن طريق المخطوطات أو عن طريق مؤتمرات الفيديو الحديثة. ويبدو أن العولمة لم تتمكن من تبديل هذه الضرورة حتى الآن.ورغم ذلك لا ينبغي لنا أن ننكر أن التكنولوجيا كانت بالغة التأثير في كل مكان تقريباً؛ فكما نجح اختراع التلغراف في اختصار أسابيع من الوقت في تبادل الرسائل عبر البحار، وكما سمح اختراع الهاتف ثم الطائرة للزعماء بتكثيف التواصل فيما بينهم إلى حد غير مسبوق، فإن تكنولوجيات اليوم سوف تستمر بكل تأكيد في تغيير سبل التبادل الأساسية، سواء بين الدول، أو المناطق، أو بين الكيانات التي لا تحدها أوطان أو أقاليم.ولكن يتعين علينا رغم ذلك أن نحرص على عدم الخلط بين الوسائل والغايات في عالم السياسة؛ فالاتصالات الأفضل والأسرع ليست غاية ذات قيمة في حد ذاتها، أو على الأقل بالنسبة للدبلوماسيين. وما علينا إلا أن نتذكر جو الفوضى الذي ساد أثناء مؤتمر المناخ الذي عقدته الأمم المتحدة في كوبنهاجن لكي يتملكنا الخوف من ذلك النوع من النتائج المختلة المحبطة التي قد تنشأ عن رغبة الجميع في التواجد والفوز بالمديح والثناء في كل مكان في الوقت نفسه، والحصول على كل وسيلة ممكنة لتحقيق هذه الغاية. وإذا أصبحت مثل هذه «القمم العالمية» الوسيلة الرئيسية للحكم في القرن الحادي والعشرين فهذا يعني أن لدينا أسبابا حقيقية للقلق والانزعاج.
من حسن الحظ أن مؤتمر كوبنهاجن شهد اتجاهاً مضاداً جديراً بالملاحظة؛ فقد عمدت الدول ذات التفكير المتشابه، وأغلبها من الدول المتجاورة، إلى تكوين تجمعات في محاولة لتعزيز نفوذها، وكان هذا ملحوظاً بين بعض البلدان الأصغر حجماً والأكثر فقراً والأشد تضرراً بتغير المناخ؛ وبالتالي الأكثر اهتماماً بمعالجة هذه القضية. وبقليل من الرعاية بات من الممكن أن تعمل هذه التجمعات كأحجار بناء وليس معاول هدمٍ للإجماع العالمي.
لقد شهد العالم مثل هذه التوليفة من قبل؛ فحين أعلن الرئيس وودرو ويلسون بعد نهاية الحرب العالمية الأولى قدوم ما أطلق عليه الدبلوماسية الجديدة، التي بمقتضاها تحل المواثيق المفتوحة والأمن الجماعي في محل السرية وتوازن القوى، اعتبر العديد من الناس مثل هذه الأمور أحلام واعظ مثالي. والواقع أن سياسات القوة ما زالت متغلغلة في العديد من أجزاء العالم اليوم، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن سبل الدبلوماسية في عام 2010 تختلف تمام الاختلاف عن تلك التي كانت سائدة في عام 1910، بل وتتفوق عليها كما يزعم البعض، ولا شك أن نتائجها أفضل في كل مكان.
وهذا لا يرجع ببساطة إلى قانون ثابت يحكم التقدم؛ ذلك أن العديد من العناصر القيمة في الدبلوماسية القديمة ما زالت قائمة، مثل مواءمة السياسة الخارجية مع المصالح الوطنية والإقليمية، وتفضيل الممكن على المرغوب، وتهذيب وتحسين ما نستطيع أن نطلق عليه اليوم «تدابير بناء الثقة»، أو أساليب ترسيخ الثقة بين الجماعات الصغيرة من المفاوضين المحترفين، وبين هذه الجماعات والمواطنين الذين يمثلونهم.
إنَّ هؤلاء الذين يفترضون أن دبلوماسية القرن العشرين الزائلة - كما يصفها بعض المتحمسين للشبكات العالمية اليوم - كانت تُدار بالكامل من وراء الأبواب المغلقة بواسطة أهل النخبة مخطئون في تفسير تاريخهم. ولا نحتاج إلا إلى قراءة التقارير الصحفية المعاصرة عن أي مؤتمر دولي رئيسي أثناء هذه الفترة لكي ندرك أهمية جماعات الضغط المتعددة - ليس الصحافة فقط، بل أيضاً «الناشطون في مجال السلام»، والمصرفيون، والصناعيون، والنقابات العمالية، والمنظمات الدينية، وغير ذلك الكثير - في كل هذه الحالات تقريباً.والواقع أن الدبلوماسيين كانوا لفترة طويلة يشكلون الشبكات الاجتماعية الأكثر كفاءة على الإطلاق، ولقد تعاملوا مع أجندات متعددة وفئات مختلفة من الجماهير، من هؤلاء الذين طالبوا بالضغط على مؤتمرات نزع السلاح التي عقدتها عصبة الأمم في ثلاثينيات القرن العشرين إلى هؤلاء الذين حملوا مكبرات الصوت في كوبنهاجن في ديسمبر/ كانون الأول.إن التحدي الذي يواجهنا اليوم يتلخص في تحويل هذه المشاعر إلى نتائج، ولن يتسنى لنا تحقيق هذه الغاية إلا من خلال الاستعانة بالسبل المجربة والمختبرة في الإقران بين الدفاع والحرفية المهنية، وبتغذية جيل جديد من الموظفين العموميين الدوليين الذين نطلق عليهم الدبلوماسيين؛ فالعالم الآن يحتاج إليهم وإلى حقائبهم الدبلوماسية أكثر من أي وقت مضى.
* مؤرخ بمعهد الجامعة الأوروبية ومؤلف كتاب «القرن الأطلسي».