من المفترض بحق وحقيقة أن الأستاذ الجامعي لا سلطان عليه غير سلطان خالقه وضميره وانتمائه الوطني، فإذا خرج عن هذا الخط لم يعد الأستاذ أستاذاً ولا الجامعة جامعة إنما يصبح موظفاً كسائر الموظفين في مؤسسة اعتيادية لا توصي بقوة العلم وجلاله ولم تعد للأستاذ شخصيته التي عهدناها في أزهى عصور الإسلام.
بالأمس كان الخليفة هارون الرشيد رضي الله عنه (766هـ - 809هـ) يجلس بين يدي مالك بن أنس (715 - 795هـ) ليدرس عليه (موطأ الإمام مالك) ويناديه أستاذ باسمه مجردا من الألقاب كأي طالب من طلاب العلم، فالعلم يؤتى ولا يأتي كما قال مالك بن أنس لهارون الرشيد.
وعندما بعث في طلبه فأبى الحضور فجاء الخليفة إليه بنفسه معتذراً وجلس إلى جنبه فأشار إليه أنس بن مالك بأن يجلس بين يديه قائلاً: ما هكذا يجلس طلبة العلم يا هارون والله لا أدري أأعجب من جراءة مالك متسلحاً بسلاح الإيمان والعلم أم من حلم هارون الرشيد وانصياعه لجلال العلم وهيبته.
ذلكم هو العصر الذهبي بحق وحقيقة يوم كان هارون ومالك إماماً ويوم لم يكن الأستاذ ليفكر بأمور معاشه لأنه كان مكفي المؤونة بل قيل إن بعض أساتذة العلم كانت أبوابهم مطلية بصفائح الذهب فكان العالم منصرفاً للعلم كل الانصراف ليبدع ما شاء الله له الإبداع فكان نتاج ذلك كله هذا التراث الإسلامي نشهده اليوم ونقف أمامه حيارى مبهورين هذا ما يحدثنا به الماضي عن ماضينا، أما واقعنا اليوم ونعيد النظر في جامعاتنا ومكانة أساتذتنا علينا ألا نخدع أنفسنا وندعي الكمال بل علينا أن نجعل هدفنا المأثورة القائلة بأن (النقد الذاتي أفضل أنواع النقد) هذا إذا كان صادقاً أميناً بعيداً عن كل تملق ورياء وتأخذ النقاط التالية بنظر الاعتبار.
1 - قبل كل شيء يجب أن نحقق لجامعاتنا الاستقلال التعليمي الناجز ونوفر لأساتذتنا الحرية التعليمية بحيث تصبح الجامعات لدينا وحتى الجامعات العربية حرماً آمناً بكل معنى لتعميق هذه المقولة.
2 - نحدد معنى الأستاذية فلا تصبح مجرد تعداد سنوات والصعود إلى كرسي الأستاذية مع بعض البحوث السطحية والتقليدية لا طائل تحتها ولم تأت بجديد ولا أضافت إلى تقدم الفكر البشري شيئاً يذكر حتى غدت بعض كلياتنا اليوم تحوي أساتذة أكثر مما تحوي على معيدين ومدرسين كبعض دوائرنا الرسمية التي تضم مديرين عامين أكثر مما تضم من ملاحظين وكتبة، لذلك يجب تحديد عدد الأساتذة لكل قسم لايعين الأستاذ إلا بعد موت أستاذ أو تقاعده.
-3 علينا أن نمنع منعاً باتاً تخطي الدرجات العلمية وأن نمنح الشيخوخة العلمية حقها فلا يجوز لمدرس أو أستاذ مساعد أن يصبح رئيس قسم أو عميدا أو رئيساً لجامعة في حال وجود أساتذة قدامى أكفاء وأقول أكفاء فليست هذه الكرتونة والتي أحياناً لا تعلم مصدرها يملؤون مثل هذه المناصب بحق وحقيقة لأن المكان بالمكين وأن المراكز العلمية لا ترفع قدر ممتطي صهوتها بقدر ما تهبط قيمتها فلا تبقى له هيبة ولا قدر علمي يضعف كفاءة محتلها.
4 - يكون اختيار رئيس القسم والعميد ورئيس الجامعة بالانتخاب الحر المباشر من بين حاملي مرتبة الأستاذية.
5 - يمنح أعضاء هيئة التدريس بالجامعات مرتبات معقولة بحيث ينصرفون عن أمور الراتب أو المعاش انصرافاً كلياً إلى البحث العلمي الصرف.
6 - يتمتع أعضاء هيئة التدريس بعطلات معقولة ولا يكلفون بالعمل خلالها، كما نلاحظ بالجامعات الأوربية خصوصاً النظام الإنجليزي الذي يعتبر أفضل نظام في هذا المجال.
7 - لا يجوز لأي عضو من أعضاء الهيئة التدريسية الجامعية ألا يكون مهتماً بالبحث العلمي في أية فترة من فترات حياته التعليمية في الجامعة فالعضو العاجز عن البحث العلمي لا يصح أن يبقى في الجامعة فمكانه المدارس الثانوية لا الجامعات، فالبحث العلمي يأتي في المرتبة الأولى بل إن بعض الجامعات تجعله فوق التدريس لأن البحث العلمي عندها يأتي أولاً والتدريس ثانياً.
8 - إن معظم كلياتنا الجامعية وبكل أسف شديد أشبه بثانويات مكبرة لم تسهم في التحقيق العلمي ولا الحضارة المعاصرة على نحو ما تفعله الجامعات الغربية فعنصر الإبداع في جامعاتنا ضئيل وصوتنا الحضاري لا يكاد يسمع وإذا كان ثمة شيء من التقدم فهو في مجال تحقيق التراث العلمي وحتى هذا لا يكاد يكون على نطاق الطموح الوطني أو بحوث مقلدة لبحوث عملت في دول أخرى فلهذا لا يستطيع أي أستاذ عربي نزيه ومبدع ويرقى إلى مستوى الأستاذ الغربي اللهم إلا بعد أن يهاجر إلى الغرب ويستقر في إحدى الجامعات، فالنقص إذن ليس في هيئاتنا التدريسية من الشرفاء والصادقين والمتحمسين بل في أنظمتنا الجامعية ومدى ما يتمتع به الأستاذ الجامعي من حرية ومساعدات مادية ومعنوية وإحساس بالأمان وكشف المتلاعبين والمزورين الذين أساؤوا إلى مكانة الأستاذ الجامعي من الشرفاء والنزيهين حتى ذاب المبدعون وطمسوا، وعلينا أن نتذكر أنه ليس كل من يتخرج حاملاً شهادة جامعية يصلح أن يكون عضواً في الهيئة الجامعية، فما أكثر العلماء الذين يصلحون للبحث العلمي ولا يصلحون للتدريس أو أفضل مقال على الرياضي الشهير البرت إينشتاين فقد كان أكثر الأساتذة أفقاً في تدريسه فأمثال هؤلاء لا يصلحون إلا مشرفين على رسائل في الدراسات العليا والموضوعات الاختصاصية الضيقة النطاق.
فالتدريس الجامعي موهبة خاصة تجمع بين القدرة على التتبع والتدريس الجامعي ينقل ما يتوصل إليه الأستاذ من حقائق جديدة إلى طلابه بأسلوب دقيق يقرب الحقائق من المدارك والأفهام، ومن أجل تطويرالأستاذ الجامعي في جامعاتنا من الضروري أن نفكر بصورة جدية في تبادل الأساتذة بيننا وبين الجامعات الغربية، وهذا ما تفعله الآن جامعة الملك سعود، وكذلك العمل على إقامة جامعات عربية عالمية في أوروبا وأمريكا تكون جسوراً لعبور الثقافات وإظهار القدرة العربية على الاختراع والاكتشاف والبحث المبدع الخلاق فضلاً عن الإكثار من الدوريات والمجلات العلمية العربية التي تستخدم اللغات الأوربية كما لنقل ما استجد إلى الأدمغة الأوربية لتبرهن لها على أننا لا نقل قدرة وقابلية عنها، وأننا لا نعيش طفيليين على مائدة لحضارة الغربية لا ولا عالة على علوم الغرب وهذا ما فعلته اليابان ببراعة فائقة.
أما الحرية التعليمية ومداها فهي مشكلة المشكلات وقد عرفها بعضهم بقوله: إنها حرية التعبير عن الأفكار غير المرغوب فيها ونشرها وهي ضرورية للتتبع والتطور والمعرفة ونموها، وقد يكون هذا المبدأ جائز التطبيق ضمن الأجواء التعليمية حيث يجري البحث والتنقيب.
أما على نطاق الجمهور غير الأكاديمي فلا الأستاذ يجب أن يتمتع بالحضانة الأكاديمية.. التي لا تقل أهمية عن (الحضانة البرلمانية) والنقد البناء ضروري بل وأساسي في الاستقصاء والتوصل إلى حقائق جديدة الفائدة البشرية ما (الحياد الأكاديمي) إذا جاز التعبير فسخف ما بعده سخف فمجاهرة (غاليليو) بدوران الأرض كان لابد للتوصل إلى المزيد من الحقائق رغم معارضة الرأي العام يؤمذاك مدعوماً بالهيئات الدينية والعلمانية المتطرفة، ولكن لابد بالأستاذ الذي يتخذ خطة بحث جديدة مناوئة لما تعارف عليه الرأي العام أن يدعم هذه الخطة بالحقائق والبراهين العلمية والإسلام يؤدي اختلاف وجهات النظرالبناءة باختلاف أمتي كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولا يجوز معاقبة الأستاذ وفصله إذا كان مخلصاً في وجهة نظره ولا بعض إلحاق الأذى والضرر بالمجتمع فسلطان العلم فوق كل سلطان، وهذا هو الذي رفع من مكانة الأستاذ الغربي درجات فوق مكانة الأستاذ الجامعي في معظم الأقطار العربية والإسلامية فلابد إذن من أن يكون أول أهداف اتجاه جامعاتنا السعودية تحقيق هذا الهدف الأسمى فمجرد دفع مرتب الأستاذ هذا لا يعني أن السلطة التي تدفع هذا المرتب لها حق استبعاده وقولبته في وجهة نظرها الضيقة التي قد تكون مغلوطة بل وقد تكون طريقاً لايؤدي إلى فضاء أوسع، فالجامعات أوجدت للتقدم لا للتخلف معين أقول التقدم أقصد التقدم الذي لاحد له ذلك الذي أوصل الإنسان إلى القمر كتوطئة للسيطرة على الفضاء والأجرام الأخرى التقدم الذي فتح أمام العالم وسيلة إيجاد سلالات جديدة من الكائنات الحية، والجامعة حين تعتنق مذهباً سياسياً وتصبح جامعة محافظة أو غير محافظة إلخ.. لا تصبح جامعة وإنما تصبح حزباً سياسياً وتخرج من نطاقها الأكاديمي المضروب لها فأعضاء الحزب السياسي الواحد يجب أن يتمسكوا بمعتقد سياسي موحد، أما أعضاء الأكاديمية فليسوا كذلك، ولا يحكمون رأي رئيس الحزب في كل شيء بل يحكمون اجتهادهم الشخصي وما عليه العقل والضمير الحي والاجتهاد الشخصي النير، ثم ليس بوسع كل من أراد أن يكون بروفسوراً بمعنى الكلمة يستطيع أن يصبح برفسوراً متحرياً الحقيقة المجردة المطلقة، فالتكوين البرفوسوري تكوين خاص لا يتوفر إلا في القلة القليلة من الذين نذروا أنفسهم لاستقصاء الحقيقة لوجه الحقيقة ذاتها غير أننا يجب ألا نغالي في الحرية الأكاديمية فلابد لهذه أيضاً من ضوابط وإلا أصبحت نقمة بدل أن تكون نعمة، فالحرية حريتان الحرية المدنية والحرية الأكاديمية فأستاذ الكيمياء مثلاً يتمتع بالحرية الأكاديمية فيما يتعلق بموضوع الكيمياء، ولكن ليس من حقه أن يجعل من دروس الكيمياء وسيلة للدعاية السياسية لمذهب سياسي أو مبدأ معين فمجال هذه الحرية المدنية التي يتمتع بها المواطن الأكاديمي في حين أن أستاذ الدراسات السياسية والاقتصادية قد تجتمع لديه الحريتان على صعيد واحد في مجال واحد، ولكن هو الآخر يجب أن يراعي الظروف التي تمر بها بلاده فلا يتجاوز الحدود التي يختطها له وجدانه وضميره ومشاعره تجاه الله ثم الأمة ثم الوطن، وإلا عند خروجه عن النطاق المعقول خيانة تعود بالويل والثبور بدلاً من أن تؤدي إلى خير المجتمع ورفاهه، وعليه فالحرية الأكاديمية خير آجل وشر عاجل كل هذه الأمور يفهمها الأستاذ الذي يقبل كرسي الأستاذية بجدارة واستحقاق لا الذي يفلت من فجوات بعض الأنظمة المتخلفة، فالمركز العلمي الذي لم يخلق له والذي لم يرفع من شأنه وإنما يحط من قيمة المركز الذي يحتله.
* كلية العلوم الإدارية والإنسانية - جامعة المجمعة - قسم التربية الخاصة