كان ذلك أيام التفاؤل والحرارة والأمل وانشغال المثقف ليس بما يخصه أو ما يتعلق بوطنه فقط بل بما يتعلق بالعالم كله وتفاعله مع أحداث هذا العالم الكبير، وكانت المناسبة احتفاء بالمفكر هشام شرابي، وكان المكان بيت الدكتور الصديق محمد الرميحي في الكويت، أما أنا فقد كنت في أوج الزهو الإبداعي والرهاق الثقافي والشغب الذي لا يهدأ، وكان المثقفون الكبار يوقدون هذه الجذوة المشتعلة من الحماس بكيل المزيد من المديح لمشاعر شاب يرون فيه ظاهرة شعرية جديدة جاءت من هامش المدينة او بالأحرى من الصحراء لتهز الثوابت الثقافية الراكدة. أقول في تلك الليلة الرائعة من العمر التي أتذكرها اليوم بكل أسى وفخر هاتفني الصديق سليمان الفهد قائلاً: ما رأيك بسهرة ثقافية (محفوفة) تقتصر على كبار المثقفين والمفكرين في العالم العربي والذين سأعرفهم عليك أو أعرفك بهم شريطة ان تصطحب معك (الدفتر الملعون) وكان يعني بذلك دفترا صغيرا دونت فيه أوائل قصائدي الحارة والحادة التي تنتقد الكثير من الأوضاع العربية السائدة آنذاك بما فيها مهجوات شعرية تتعلق ب(شاه إيران السابق) وغطرسته التاريخية على دول الخليج، وبالطبع أحضرت الدفتر إياه ومررت بالصديق الفهد الذي كنت أعتبره أباً روحياً لي ومن ثم اتجهنا الى بيت الدكتور الرميحي، وكان يغصّ بالعديد من المثقفين والمفكرين العرب الذين أعرف بعضهم ولا أعرف بعضهم الآخر، أما الذين أعرفهم حسبما أتذكر فهم عبدالله النفيسي، علي الراعي، أمين العيوطي، أحمد الربعي، عادل فاخوري، عبدالإله أبو عياش، سليمان العسكري، عيسى العصفور، سهيل الطويل، عبده بدوي، أحمد بهاء الدين وغيرهم. وحينما دخلنا سليمان وأنا وكان الحوار محتداً حول الحضارة الإسلامية بين أساتذة كبار لا أعرف بعضهم وكان ثمة دكتور يهيمن على الجلسة ولا يعطي لبعضهم المجال بالرد وإن كان يرد على بعضهم بما يشبه الاستعلاء والفوقية ولأنني لاحظت ذلك، وكنت حينها أتميز بالجرأة والحدة قلت لذلك الدكتور لو سمحت قف أنت لست دكتورا أنت دكتاتور فضج الجميع بالضحك، ثم أردفت أهكذا ديمقراطية الكبار؟ لماذا لا تفسح لزملائك المجال؟! وبالطبع بُهت الدكتور من هذه المفاجأة، ثم أشار لي أحد الحاضرين ولعله أحمد الربعي رحمه الله لا يا سليمان هذا الدكتور فؤاد زكريا، ثم نهض دكتور آخر وقبلني وهو يقول (أنته جيت من أين يا ابني داحنا عاوزينك من أول الليل) فنبهني الدكتور أحمد أن الذي قبلني هو الدكتور عبدالعظيم أنيس، حقيقة حينها لم أخجل كثيراً بل أخذتني العزة بالنفس ودخلت في النقاش رأساً وبكل ما أحفظ من مصطلحات سياسية (أفهم بعضها ولا أعرف أكثرها!!) بعد ذلك انفضّ السامر وأثنى عليّ الكثير من أولئك المفكرين، ثم عرفت ان الدكتور والمفكر فؤاد زكريا يقيم في الكويت مدرساً للفلسفة في جامعتها، ومن ثم تعددت اللقاءات الحميمة بيننا وتوطدت العلاقة وازدادت المحبة وكنا نلتقي كمجموعة من الأصدقاء اما في (مطعم السلفرستار) في السالمية او في مطعم قيصر خلف الشيراتون أو في الشيراتون نفسه أو في صالون الشاعرة فوزية شويش السالم، أو في بيت الدكتور فؤاد أو في المخيم الربيعي في برّ مشرف، وقد فتحت لي هذه المعرفة بالدكتور فؤاد أبواباً كثيرة (للمعرفة) واستفدت من صداقته كثيراً في مجال الفكر والفلسفة وحينما حل الغزو الصدامي بالكويت في 1990 كان فؤاد يسأل عنا واحداً واحداً ويدعونا للإقامة في مصر بل وفي بيته، ثم اتخذ موقفاً حازماً من العدوان في كتاب عنوانه (أزمة الفكر العربي).
واليوم وأنا أتذكره بعد رحيله المباغت والصاعق لي ولكل من عرفوه لا أملك إلا أن أقول رحم الله فؤاد زكريا المفكر والفيلسوف والإنسان. و(إنا لله وإنا إليه راجعون).