يتداول الناس تعبيرين جديدين على واقع الأعمال في المملكة العربية السعودية ويتباين هؤلاء الناس في تكوين المفهوم عن هذين التعبيرين, وهما الشفافية والحوكمة, فالأول له معنى لغوي لا لبس فيه وكل يدرك معنى الشفافية, ولكن عندما يكون لهذا التعبير مدلول قانوني وتنظيمي يصبح المفهوم أكثر تعقيداً ويستلزم حصر مدلوله بما يمكن قياسه وملاحظته, وهذا القول أبين فيما يخص الحوكمة, وهي كلمة جديدة في الصياغة أستلهم مضمونها من الحكم وهو التصريف والتدبير وليس القضاء, هذان التعبيران أحدثا حراكاً فكرياً تمحور حول مشروعية وقابلية الفصل بين الملكية للمؤسسات التجارية والشركات وبين عملية إدارة نشاطها, بحيث تحيد مصالح المالكين في التأثير على مجريات نشاط المؤسسة. هذا الحراك الفكري تبلور أحياناً في صورة جدل عاصف حول المصلحة العامة وسموها على المصالح الفردية ومفاهيم أخرى حول التأثير الكلي للمؤسسة الاقتصادية وما إذا كان هذا التأثير يرقى لتكوين حقوقية اجتماعية.
منذ أن تزايد تأثير فكر مدرسة العلاقات الإنسانية في العملية الإدارية, تطور الفكر الإداري لتعميم مفهوم المستفيدين (Stake holders) والذي يجعل مصلحة ملاك أصول المؤسسة في الربحية موازية لمصلحة الموظفين في الأجور وكذلك مصلحة الموردين في التوريد ومصلحة المشترين في توفر المنتج وجودته, هذا المفهوم عندما ساد في الواقع العملي للنشاطات الاقتصادية وبات كثير من الشركات تضع ضمن رسالتها الإستراتيجية مصالح المستفيدين (Stake holders) وتهيكل منظماتها التنفيذية بحيث تنفذ تلك الرسالة, تبلور مفهوم شامل مضمونه أن المؤسسة الإنتاجية هي مكون متضافر لبناء صرح شامخ هو الاقتصاد الوطني والذي تقوم على جدارته وكفاءته الثروة الوطنية ويبني عليه النمو والاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمني, لذا فإن جميع المؤسسات الإنتاجية بصورة شاملة تشكل مصلحة وطنية مشاعة عليا, واعتمادا على ذلك يجب أن تكون جميع تلك المؤسسات المنتجة على درجة من الكفاءة والجدارة بحيث يمكن الاطمئنان على مساهمتها الوطنية, هذا التفكير والذي يتهم بأنه وراثة غير شرعية للفكر الشيوعي يصطدم بفكر آخر يقوم على أساس أن المنافسة هي السبيل لرفع كفاءة المؤسسات الإنتاجية, فهي أداة الانتقاء الطبيعي حيث البقاء للأفضل, وأنصار هذا التفكير لا ينكرون أن الانتقاء الطبيعي كنظام حيوي يفترض عشوائية المؤثرات وبالتالي لابد لهم من قبول تهيئة فضاء من الحرية تزاح منه القيود والتنظيمات لتمارس المنافسة انتقائيتها.
التراكم التاريخي الحديث للتحورات الفكرية في الإدارة أفضى إلى محصلة لازمة وهي أن التنافس أداة هامة في تحفيز العملية الإنتاجية وتطوير النوعية والكفاءة وقبل ذلك تمكين الإبداع والابتكار, كما أن التنافس بدون لجام مدمر ومهلك, لذا كان لابد من تكوين مفهوم جديد يجمع بين حرية المنافسة وقيدها, وذلك من خلال تكوين مفهوم سامٍ أعلى يقوم على أساس الاشتراك في المصالح المتحصلة من العملية الإنتاجية الكلية وتوزيع المنافع بين أكبر شريحة ممكنة من الناس هذا المفهوم أصبح القيمة الأساسية في النظم الاقتصادية الحديثة, والتي من ظواهرها تنشيط أسواق المال وحث المؤسسات الإنتاجية على طرح ملكيتها طرحاً للمساهمة العامة, وتحريم الاحتكار والامتيازات بكل أشكالها, وتحريم كارتيلات التسعير الموحد, وفتح الأسواق وإزالة الموانع الجمركية والحمائية, من هذا التوجه برزت الحاجة إلى وجود رقابة للمؤسسات التجارية حتى تنضبط بتلك المعايير التي ستكفل تنافسها تنافساً بناء وهذه الرقابة لا يجب أن تكون رقابة مفروضة بل هي رقابة ذاتية, لذا كان لابد من وجود آلية مقننة تعتمدها المؤسسات الإنتاجية لتنضبط بها طواعية, وهو ما تحقق في بروز كثير من تلك الآليات والتي كان من أولها الجودة الشاملة وشهادات الانضباط بمعايير الأيزو (ISO) وهي منظمة المواصفات العالمية, وكذلك تعديل معايير المراجعة المالية من معايير تقليدية لأداة درء للمخاطر, ومعايير الاتحادات الإنتاجية ومن تلك المعايير الجديدة معايير الشفافية والحوكمة.
تفترض معايير الشفافية, أن تعتمد المؤسسة سياسة إفصاح عن كل ما من شأنه التأثير على مصداقيتها في كسب ثقة المستفيدين (stake holders) والمجتمع بصورة عامة, وهذا لا يعني أن تكشف المؤسسة عن أسرار تفوقها ونبوغها في مجالها, فما يستثنى من الإفصاح هو أسرار العمل التي تشمل استراتيجية النشاط وتكتكات التنافس, والحقوق الفكرية ومعلومات العملاء والموردين والموظفين وخطط الشركة المستقبلية. وتضع المؤسسة التنظيم الذي يتيح شفافيتها وتعلن ذلك من خلال نظامها الإعلامي, والذي يشمل موقعها على الانترنت, وتضع التنظيم الذي يتيح للموظفين التصرف بشفافية تجاه المجتمع, أما الحوكمة فهي تنظيم قانوني به تعلن المؤسسة وتوضح السلطات التي تمكن بها هيئتها الاستراتيجية, وهو مجلس الإدارة, وهيئتها التنفيذية, وهي الإدارة, وتحدد تلك السلطات بحيث تحقق معايير أساسية منها فصل الملكية عن الإدارة, وتوزيع السلطات ضمن مجلس الإدارة, بحيث لا تنحصر تلك السلطات بشخص أو أشخاص محددين, وتمكين لجان مجلس الإدارة من التصرف بحرية تجاه نشاطها ووضع آلية لمساءلة أعضاء مجلس الإدارة, عند التصرف غير الملائم, كاستغلال المعلومات السرية لمصلحة شخصية أو إتيان ما يضر مصالح المؤسسة, كما تنظم الحوكمة العمل ضمن المنظومة التنفيذية بحيث تضمن تدفق المعرفة بين إدارات المؤسسة وممارسة الصلاحيات بصورة فعالة.
في ختام هذا المقال لابد من التوصية بأن يتم وضع جهاز منوط بعملية تشجيع ونشر ثقافة الرقابة الذاتية ضمن المؤسسات السعودية واختراق حواجز التوجس والخوف من فقدان السيطرة, كذلك لابد من رعاية وتكريس المنافسة العادلة وتمكينها من التفاعل داخل المجتمع وداخل المؤسسات الإنتاجية حتى تتحسن الكفاءة وتنمو الإنتاجية الوطنية وهو ما سيدعم حركة الإنتاج والتصدير وتكوين الثروة الوطنية القادرة على صيانة المجتمع وتحسين ظروف معيشته.