يحدث من آن لآخر أن يحضر للعيادة مراجع يطلب مني أن أحدد له تشخيص مرضه فقط دونما حاجة إلى أن أتعب نفسي في البحث له عن العلاج الذي يحتاجه. يتضح لي في كل مرة بعد السؤال والجواب أن هذا المراجع قد حضر إلى العيادة مدفوعا من أحد المعالجين الشعبيين الذين يطببون بالأعشاب ولحاء الشجر ومسحوق الحجر ومختلف الخلطات والعجائن والتراكيب التي يستحيل على خالطها معرفة محتوياتها ومساراتها وأفعالها داخل الجسم الحي وكيف تدخل وكيف ومتى تخرج منه ناهيك عن الانهيارات الصحية التي قد تسببها. في مثل هذه الحالة تكون لدينا تركيبة جهل واحتيال ثنائية غريبة عجيبة لا تزدهر وتعشش وتؤكل عيشا رغدا إلا في البلاد التي يمكن أن يكون فيها التطبيب والتداوي بلا حسيب أو رقيب مثل وطني الحبيب. التركيبة العجيبة بكل بساطة تتكون من محتال دجال ومريض جاهل بآفاق الطب العلمي من ناحية ومتعلق عاطفياً وخرافياً بأدغال وسراديب ما يسمى بالطب الشعبي والطب البديل من ناحية أخرى. مع تكرر مثل هذه الحالات معي بدأت أتعلم كيف أكظم غيظي وأتماسك وأدخل مع هذا المريض المسكين في نقاش تثقيفي حول أبجديات الطب ومهامه وواجباته. بكل بساطة أقول للمريض: يا حبيبي يا نور عيني كيف تثق في طبيب يجهل من الطب القسم الأساسي منه وهو المعرفة الكافية لتشخيص العلة ورغم ذلك يدعي القدرة على علاج ما يجهل الوصول إليه بالأساس؟. يا حبيبي يا نور عيني لو افترضنا أنني كطبيب حقيقي استطعت تشخيص حالتك ولكن سقطت من ذاكرتي وسائل علاجك، ألا يمكنني البحث في مجلداتي وكمبيوتري عن العلاج المناسب لعلتك في لمح البصر؟ يا مريضي الحبيب، الطب أساساً يقوم على ثلاث قواعد متلازمة.. التشخيص أولا والعلاج ثانيا ثم الوقاية لاحقا.
عندما يبدأ مريضي الحبيب يتصبب عرقا من الإحراج والخجل أبادره بالسؤال هل فكرت في مقاصد معالجك الدجال هذا؟. إما أنه يعجز بالفعل (عن طريق الحديث معك وفحصك) عن التشخيص بسبب الجهل الطبي المطبق، أو أنه يريدك أن تجمع له بعض المعلومات الطبية مجانا من طبيب حقيقي وتدفع له المال أيضاً فوق ذلك، أو أنك أنت شخصيا تتفق مع دجالك هذا على تمثيل بعض الحالات المرضية على أطباء حقيقيين لتعرفوا منهم كيف يكون التصرف إزاء تلك الحالات. هنا يبدأ بعض المرضى يرتجف ويقسم بأغلظ الأيمان أن الأمر ليس كذلك وأنه لم يفكر أصلاً بهذه الطريقة في مواصفات المعالج الذي أرسله إلى العيادة وأنه يتوب من هذه اللحظة عن مراجعة أمثال هذا الدعي. البعض الآخر من المراجعين يلملم أطراف هدومه وينسحب بسرعة فائقة وطاقة جامحة لم تكن ظاهرة عليه عند القدوم إلى العيادة.
تعليق: الناس عندنا يتمتعون بالسذاجة وسهولة الانقياد عندما يصابون أو يتوهمون أنهم مصابون بالمرض لدرجة أن أي محتال يستطيع أن يسلبهم أموالهم وتشليحهم ملابسهم، وربما تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه لا سمح الله. بالرغم من أن الناس يعرفون أن البلد لا تخلو من المحتالين، بل وتؤوي وتطعم أعداداً هائلة منهم، إلا أن الكثيرين من المرضى يجنحون إلى استثناء مهنتين من احتمال الاحتيال هما المتاجرة بالمرض والمتاجرة بالدين، وفي كثير من الأحيان يدخل هذا في ذاك، وذاك في هذا بما يحقق مصالح أكبر للطرف المحتال. يجب أن يعرف الناس، البسطاء والسذج منهم خصوصاً، والنساء على الوجه الأخص أن أكثر الأعشاب التي يشترونها من محلات الطب الشعبي ودكاكين العطارة وقيصريات الدجل والشعوذة يكون قد تم خلطها ونقعها وتشريبها بأدوية صيدلانية حقيقية مشتراة من الصيدليات الطبية، إما محلياً وإما في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، ولكن الخلط والتشريب والتنقيع يتم بطرق عشوائية وبدائية وقذرة بحيث تصبح النتيجة النهائية خلطة متفجرة مليئة بالمكروبات القاتلة والسموم المعدنية والنباتية بالإضافة إلى المستحضرات الصيدلانية المضافة التي قد يكون بعضها مهلكاً إذا استعمل في غير موضعه مثل الكورتيزون والهرمونات ومثبطات المناعة والمضادات الحيوية والمخدرات.
لقد حضر إليّ ذات يوم مريض مزمن التردد على الأطباء وكان كثيراً ما يجادلني في قدرات بعض الشخصيات الطبية الشعبية المشهورة في الرياض، وأخرج من جيبه فور جلوسه أمامي مجموعة من قصاصات الكرتون المنزوعة بأسمائها من علب أدوية صيدلانية مع الأسماء والجرعات مكتوبة عليها باللغة الإنجليزية. سألته ما هذا؟ فقال صدقت يا دكتور فيما كنت تقول عنهم، لقد راجعت أحدهم هذا اليوم فنصحني بالكي والحمية لأربعين يوماً عن اللحوم والحوامض بالإضافة إلى تناول بعض الأقراص والكبسولات الصيدلانية بمعدل ثلاث مرات باليوم. هل تدري ماذا حصل يا دكتور حين سألته عن مدى معرفته بأسرار هذه المركبات الصيدلانية؟. لقد انفعل لدرجة خفت عليه منها وصرخ قائلاً: طس لدكتورك خله ينفعك.