Al Jazirah NewsPaper Wednesday  31/03/2010 G Issue 13698
الاربعاء 15 ربيع الثاني 1431   العدد  13698
 
رحلت يا شيخي ولكن سأظل أذكرك

 

لم نأخذ عهداً من الدنيا على دوام الصفاء، ولم يكن بيننا وبينها موثقاً على استمرار الرخاء؛ ففي مساء يوم الثلاثاء 7-4-1431هـ فُجِعْتُ وفُجِعَتْ محافظتنا - الغاط - بوفاة رجلٍ من رجالاتها، وعَلَمٍ من أعلامها، شيخي الفاضل وأستاذي القدير: عبد الرحمن بن عبد العزيز العلي- رحمه الله -، المدرس في المعهد العلمي في محافظة الغاط.

رحل من كنتُ أجلّه وأحبُّه، رحل صاحبُ الوجه المشرق، ذو الابتسامة الغرّاء، رحل حسنُ الأخلاق، و جميلُ الصفات، رحل شيخي ذو الرأي السديد، والبيان الفريد، رحل مَنْ هو بين الناس محمود، وعند الله - إن شاء - مقرّب محبوب.

رحلت يا شيخي ولكن سأظل أذكرك، نعم سأظل أذكرك!

سأظل أذكرك: معلّماً ناجحاً، ومربّياً ناصحاً، طالما نهلتُ من معين علمك عندما كنتُ طالباً، وحينما أصبحتُ معلّماً، فأنت مرجعٌ فيما يشكل علينا من مسائل اللغة والنحو، ونجدك مسروراً كل السرور وأنت تجيب على تساؤلاتنا، وإذا لم يحضرك الجواب، نجدك تبادر بالاتصال وتفيدنا بأنّ الجواب كذا، والمسألة ذكرت في كتاب كذا وكذا.

سأظل أذكرك: رجلاً بارّاً بأمّك أيّما برّ! تولّيت رعايتها، وأحسنت في عنايتها، وسعيتَ وبذلت من أجل راحتها؛ لن أنسى في يوم من أيام فصل الشتاء - ونحن معاً خارج المحافظة - حرصك الشديد على الرجوع لبيتك مبكراً، وعند سؤالنا عن السبب كانت إجابتك: لأقوم بتشغيل جهاز التكييف في غرفة والدتي؛ لتكون دافئة!.

بل سأظل أذكرك وأنت تجري الاتصالات الكثيرة، وتسأل هذا، وتستفسر من ذاك عن سريرٍ مناسبٍ ومريحٍ؛ لتشتريه لها، وفعلاً وجدته ودفعت فيه آلاف الريالات، من أجل أمك!.

شيخي الفاضل سأظل أذكرك: للمعروف فاعلاً وعن المنكر ناهياً بالأسلوب اللّين والموعظة الحسنة؛ فقد عملت - متطوّعاً - في رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند افتتاحها في محافظتنا، إضافة لعملك الصباحي في المعهد، فبذلت وضحّيت من أجل هذه الشعيرة العظيمة.

شيخي الفاضل رحلت عنا وسأظل أذكرك: داعياً للخير وموجِّهاً؛ ففي الذاكرة ما زالت أقوالك ونصائحك وإرشاداتك، فلن يغيب عني ذهني في اجتماع لنا معك في آخر يوم من أيام عام 1413هـ - إنْ لم تخنّي الذاكرة - وقد أحضرتَ التقويم الهجري وبقي فيه آخر ورقة في هذا العام، قمت بنزعها وطرحتَ تساؤلاً ماذا تعني لك آخر ورقة؟ فكانت إجابتنا متباينة، وجاء الجواب منك إنها ليست مجرّد ورقة نُزعت! ولا عام انقضى! ولكن مرحلة من العمر انتهت، وجزء من حياتنا ذهب، فماذا عملنا في هذا العام؟ هل استودعنا فيه ما يقرّبنا إلى الله؟ هل وهل ...؟

شيخي رحلت وسأظل أذكرك: إنساناً للخير باذلاً، وفي ميادين العطاء سبّاقاً، ولن أنسى ما تقوم به - كلّ عام - عند قدوم شهر رمضان؛ حيث تكفّلت بتفطير مجموعة من إخواننا الوافدين، فتتولّى شراء ما يحتاجونه من طعام وشراب طيلة الشهر، وتقوم بالتعاقد مع أحد المطابخ ليعدّ وجبة العشاء لهم، وقبيل الإفطار توصله لهم في مقر سكنهم! هذا هو ديدنك كل يوم من أيام الشهر الفضيل!! بل وسأظل أذكر مواقف كثيرة ساهمت فيها في تفريج كربة ومساعدة محتاج، ولعلّ آخرها عندما أرسلتُ لك بأنّ العائلة الفلانية في حاجة ماسة لتسديد فاتورة كهرباء، فإذا بك تحضر لتصلّي معي وبعد الصلاة تناولني ظرفاً فيه المبلغ وتقول: هذا من فاعل خير، وفي محيط عملك - المعهد العلمي - كنت تسأل عن طالب محتاج، وتتفقّد أحوال أبنائك الطلاب.

هذا مع علمي أنّ فعله للخير لم يقتصر على أهل محافظته بل تجاوز حدودها، فكان يذهب كل فترة لإحدى الهجر البعيدة عنّا ومعه بعض المساعدات من مأكل ومشرب وملبس.

شيخي الفاضل سأظل أذكرك: مخلصاً في عملك، حريصاً على القيام به على أكمل وجه، فاستئذانك وخروجك في أوقات العمل قليل وغيابك أقلّ، حتى إنك لتحضر بعض الأيام والتعب بادٍ على محيّاك، ونلاحظ أنك تتصبّر وتتجلّد، وإذا قلنا لك: اذهب إلى البيت وأرح نفسك! كان ردّك لنا: الحمد لله،، تعب بسيط وأنا قادر على الشرح والتدريس.

شيخي وسأظل أذكرك: لزملائك في العمل وطلابك محبّاً ومقدّراً؛ تخاطبهم بأحسن لفظ وأفضل عبارة، حتى حينما تطلب منّا - نحن المعلمين - ما يخصّ الطلاب من تقارير وتسليم درجات، نجدك تكتب تلك الورقة وفيها ألفاظ: (أرجو منكم،،، فضلاً منكم،،، لو تتكرموا ب ...) وما زال آخر ما خطته يدك - بتاريخ 28-3-1431ه - معلّقا عندنا في غرفة المدرسين تطلب منّا سرعة تسليم الدرجات، لتقوم بإعداد تقارير الفترة الأولى؛ لتسلمهم إياها قبل بدء إجازة منتصف الفصل الدراسي الثاني.

شيخي الفاضل سأظل أذكرك: شخصاً طيب القلب، سليم الصدر، محباً للآخرين، حريصاً على ألاّ تجرح أحداً بكلمة واحدة، وإذا ما أحسست أنّ شخصاً قد جرحته بكلمة أو تصرف من غير قصدٍ منك، فلن يهدأ لك بالٌ ولن يقرّ لك قرارٌ حتى تبادر بالاعتذار منه، وهذا ما عاصرته مع أحد طلابنا في المعهد عندما جاء يطلب الإذن بالخروج وكعادتك مازحته بكلام، كما تمازحنا ونأنس بمزاحك، فقلتُ له - ممازحاً -: كأنّ الطالب تضايق من مزحك معه! عندها تكدّر واهتمّ واغتمّ، وقال: إذا رجع سأقابله وأبيّن له أني أمزح معه، وللآسف لم يرجع الطالب ذلك اليوم، فقام بالاتصال عليه أكثر من مرة يعتذر ويوضّح له أنّ ما قاله له من قبيل المزاح!.

شيخي الفاضل سأظل أذكرك وأذكر قول الشاعر: عُلُوٌّ في الحياةِ وفي المماتِ

ففي يوم وداعك والصلاة عليك ودفنك؛ كان المشهد مهيباً، حضر الصغير قبل الكبير، والبعيد قبل القريب، امتلأ المسجد بالمصلّين، ورأينا الحزن على وجوه الجميع، وما إن كبّر الإمام التكبيرة الأولى إلاّ ونسمع نشيجهم وبكاءهم.

وفي المقبرة مشهد آخر لا يقلّ هيبة؛ فالكل شارك في الدفن .. الشيخ الكبير والشاب والصغير، بل إني رأيتُ من طلابك مَنْ يزاحم للوصول لمكان الدفن ليشارك، وبالفعل وصل وقام بحمل اللبن ليناولها الذين يتولّون الدفن.

شيخي: هنئياً لك هذا الحبّ وهذه المكانة، وهذا - إن شاء الله - من البشرى العاجلة،

فالكل يثني، والجميع يدعو، والناس شهود الله في أرضه.

شيخي الفاضل: ودّعتنا وذكرك باقٍ، وسيرتك عطرة؛

فقد كنت لنا مدرسة في إخلاصك، في أمانتك، في حبك للخير، في نصحك وبذلك، في صدقك وسمو أخلاقك.

وأخيراً أيها القارئ الكريم هذه خلجات قلب، ونزف مشاعر، وحديث روح خرجت من تلميذٍ محبٍّ لشيخه وهذا أقلّ واجب مع من تتلمذت على يديه سنوات، وزاملته سنوات.

اللهم إنّ شيخي ضيفك فأكرم مثواه، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الذنوب والخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدّنس، اللهم أبدله داراً خيرًا من داره، وأهلاً خيراً من أهله، اللهم اجعله في الرفيق الأعلى مع الأنبياء والصالحين والصديقين وحسن أولئك رفيقاً،

اللهم اجمعنا به في جناتك جنات النعيم.

اللهم ألهم والدته وزوجه وأسرته ومحبيه الصبر والسلوان.

بدر بن ناصر الخميس



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد