تحليل - وليد العبدالهادي
فرصة سانحة لعرض قراءة مبسطة لما جرى وما يجري في أسواق النفط على هامش منتدى الطاقة الذي يجمع بين المنتجين والمستهلكين على طاولة واحدة لفض الخلاف والمزيد من التنسيق والكامل المشترك بينهما بعد تجارب جيدة لكن لا تكفي من منظمات أحادية مثل أوبك التي تعنى بالمنتجين ومثل وكالة الطاقة الدولية التي يترأسها المستهلكون. وهذه المبادرة جاءت من المملكة عام 1991م والجيد فيها أنها جاءت من بلد منتج ولقيت قبولاً ترسخ بإقرار الأمانة العامة للمنتدى في الرياض 2002م. وهناك توجه لأن يكون المنتدى له كلمة مسموعة أسوة بالحفاوة التي لقيتها قمة العشرين، وبداية يمكن تبويب الإرث التاريخي للنفط إلى ثلاث مراحل المرحلة الأولى حقبة ما قبل 1973م وهي مرحلة ما قبل الأسعار الرسمية حيث كانت فروقات الأسعار تحت سيطرة شركات النفط العالمية الكبرى والتي تستحوذ على عقود تنقيب لحقول ضخمة حيث كان السوق يعمل داخل نظام هذه الشركات، أما مرحلة الأسعار الرسمية فبدأت من 1973م وامتدت إلى 1985م تمكنت أوبك من السيطرة على الأسعار لكن فشلت في تحديد السعر العادل والمقنع للمنتجين والمستهلكين لأن العملية كانت معقدة خصوصاً مع دخول عامل مهم في التأثير على الأسعار (العامل الجيوسياسي)، والمرحلة الثالثة والراهنة هي مرحلة أسعار السوق جاءت بعد لجوء أوبك لنظام الحصص الإنتاجية 1983م بسبب انخفاض الطلب والسعر خصوصاً مع تحقيق معدلات عالية في اكتشاف الآبار والإنتاج أيضاً وسرعان ما تخلت أوبك عن الأسعار الرسمية التي وضعتها وذلك عام 1986م الذي يمثل سلة أوبك وتركته حراً وبدون قيود خاضع لميزان العرض والطلب تلى ذلك تطورات مذهلة وأحداث أليمة في هذا السوق. ولمزيد من التفصيل دعونا نروي قصص الذهب الأسود لنعرف ماذا يدور خلف أهم سلعة في العالم:
أحداث دراماتيكية
(براميل النفط تم ابتلاعها من المنصات)
منذ 1985م كان استهلاك النفط عالمياً يبلغ 59 مليون برميل يومياً، وفي 2007م بلغ 81 مليون برميل يومياً، أحد أهم الأسباب هو ارتفاع عدد سكان العالم من 4.8 مليار نسمة في 1985م إلى 6.5 مليار نسمة في 2009م، لكن ثمة عملاق جديد لعب دوراً بارزاً وهو (التنين) الذي حظي بارتفاع شاهق للنمو الاقتصادي في الصين بمعدل 9.3% في 2008م جلب معه نمواً في الطلب على النفط من قبلها بمعدل 8.1%. ويذكر أن الصين من 2005م وما قبل هذا التاريخ كانت تستهلك إنتاجها ويحقق كفايتها منه لأن أداءها الاقتصادي لم يصل مرحلة الانتعاش لكن بعد هذا التاريخ بدأت تلتهم براميل النفط من المنصات بداية من 2006م. ليس هذا فقط بل بدأت تؤسس لصناعة جديدة داخل البلاد (البتروكيماويات) وعقد شراكات مع المنتجين مثل شراكة سينوبك الصينية في اتفاقية التنقيب مع المملكة وامتلاك أرامكو 45% من مصفاة تالين شمال شرق الصين وغيرها الكثير، وارتفع الطلب من الصين 30% من إجمالي الطلب العالمي، حيث تمثل هذه الدولة ما نسبته 13% من حجم التجارة العالمية. أما الهند سادس أكبر مستهلك للنفط بمعدل 2.7% مليون برميل يومياً والثانية عالمياً من حيث عدد السكان بعد الصين ارتفعت فيها الطبقة المتوسطة بسبب النمو الاقتصادي، وزاد الطلب على التغذية والنقل والعديد من السلع الاستهلاكية التي لم يعهدها الفقراء هناك وهي في معظمها تقوم أساساً على خامات النفط ومشتقاته.
السيرة الذاتية لأسعار النفط تحكي بطولات وجرائم اقتصادية
حمى الأسعار بدأت فعلياً في 2003م، أبرز الأسباب تدني الطاقة الإنتاجية للتنقيب والتكرير والبحث وقصور نقل وتوزيع الكهرباء لم يستوعبها السوق فتمخض من ذلك استهلاك مفاجئ للخامات إلتهم كل ما كان فائضاً من عقد التسعينات فدفع بالمستهلكين لإلقاء اللوم على المنتجين لضعف حجم استثماراتهم في الطاقة النفطية ونعتها بأنها لا تستحق مثل هذه الثروات. أيضاً فروقات الأسعار بين الخامات ارتفعت وبدأت تطفو على سطح السوق مع تقلبات أسعار العملات والدورات الاقتصادية. أما الفترة من 1980م وحتى 1997م وكما يظهر الرسم البياني كان الدولار يعيش عهده الذهبي، بدأ تقريباً منذ أواخر السبعينات عندما تم تحرير الدولار من تقويمه بالسلع خصوصاً الذهب وحتى نشأة أزمة النمور الآسيوية 1997م التي هوت بأسعار النفط. ومع قرب إطلاق العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في يناير من عام 1999م بدأ الدولار يفقد بريقه. ومع بداية الألفية خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر من العام 2001م أصيب الاقتصاد الأمريكي بكسر في ظهره وبدأ الفدرالي برالي خفض أسعار الفائدة.
أما عام 2005م فكانت خامات النفط بالفعل تخضع للسوق حيث تأثرت بعوامل فنية كانت منعطفاً تاريخياً له حيث رصدت لنا الأحداث أرقاماً تشير إلى أن (نادي المنتجين) زاد في العقد الأخير ليصل إلى 160 نوعاً من الخام ينتمي لدول عديدة وذلك في 2005م، ساهم ذلك في تنشيط المضاربة على نفط غرب تكساس (WTI) عبر العقود الآجلة والخيارات، وشهد 2005م كوارث طبيعية ناتجة من إعصار كاترينا الذي أعدم منصات النفط في خليج المكسيك كذلك إعصار إيفان حيث شكلا أزمة إمدادات أوصلت خام نايمكس إلى 70 دولاراً للبرميل، وبشكل ملفت وبروح شجاعة مفعمة بالطمع قام المنتجون بإنشاء ما سمي بصناديق الثروة السيادية (SWF) رغبة منهم في الاستفادة من الثروة التي تم تحقيقها من الطفرة النفطية، كان ذلك في 2007م وبتوصية من بنوك استثمارية مشهورة مثل (مورغن ستانلي) حيث قدر قيمة أصولها المتوقعة في 2015م (12 ترليون دولار) بناء على افتراضات نسق نموها 10% سنوياً في أسعار النفط لكنها تبخرت معظمها بسبب أزمة الرهن العقاري والمحزن أنها تضمنت صناديق التقاعد الحكومية وصناديق التنمية. ومعروف أن معظم المنتجين المؤثرين في الطاقة النفطية يربطون عملة بلادهم بالدولار الأمريكي. ولأن العملة الخضراء مع قدوم اليورو وخطف الأضواء منه مطلع الألفية بدأت مسلسل الهبوط مما أثر على قيمتها الحقيقية لهذه الدول لأن عملتها مربوطة به عوضاً عن أنها تبيع النفط وتقبض ثمنه بالدولار.
وكما أن عامل التضخم الذي شهده الاقتصادي الأمريكي بداية العقد الماضي وتأثير أحداث سبتمبر 2001م على الناتج المحلي الإجمالي ساهم في خفض القيمة الاسمية للدولار وبدء رالي خفض أسعار الفائدة دون أن يشعر الجشعيون من قبل الفدرالي الأمريكي من 6.75% في 2001م إلى 2% في 2008م، أدى ذلك إلى ظهور شخصية جديدة على السوق، هذه الشخصية تسمى (المتحوطين) تجمع ما بين أسوأ صفتين في أسواق المال (الجشع والهلع) أي أنهم متطرفون في التعامل مع أسواق المال ولديهم هوس في المحافظة على رأس المال وتحقيق نمو أيضاً (يريدون كل شيء) وكان أول ظهور قوي لهم في الربع الثاني من 2008م حيث وصلت عقود النفط الآجلة إلى 1.2 مليار عقد في اليوم، كل عقد 1000 برميل، بينما كانت 290 ألف عقد يومياً تتداول قي 2005 م، هذا دليل على تكدسهم هرباً من الخفض المتسارع لأسعار الفائدة وتراجع النمو الحقيقي في الأسهم ومعظم أصول العائد المرتفع طبعاً النفط كان أول ضحية، أما كبش الفداء الآخر كان الذهب الأصفر المعروف عنه أنه على علاقة عكسية مع النفط والدولار حيث بدأ اتجاهه الصاعد عام 2000م بعد تخطيه 280 دولاراً للأونصة ولا يزال صاعداً حتى الآن، ولكن في فترة راحة.
وكانت بوادر ظهور أزمة الرهن العقاري في فبراير 2007م حيث تم رصد حالات مبكرة في تعثر سداد القروض العقارية. والجدير بالذكر أن شركات النفط الكبرى هي من كان خلف هذه المضاربات المجنونة وهي الرابح الأكبر مما يدل على أنها كانت عمليات تخارج ذكية أوصلت خام نايمكس إلى 147 دولاراً للبرميل وكانت التوصيات في سباق محموم بين البنوك الاستثمارية والوسطاء حول أرقام فلكية بانتظار الذهب الأسود على مشارف 200 دولار لخام نايمكس، صاحب ذلك تهديدات قوية لإيران بشأن الضربة العسكرية عززت من صعود الأسعار وفتحت باباً للاتهامات المتبادلة بين المنتجين والمستهلكين حيث المستهلكون يلقون باللوم على المنتجين بعدم قدرتهم على استيعاب الطلب العالمي وأنهم هم من خلف جنون الأسعار. أما المنتجون فيلقون باللوم على ضعف الرقابة في أسواق السلع وفوضى المضاربات العارمة على العقود الآجلة بسبب جشع المتعاملين هناك، وفي شهر جون 2008م حدث إجتماع طارئ للمنتجين والمستهلكين بمبادرة قيمة من خادم الحرمين الشريفين أبدت فيها المملكة استعدادها وقدرتها على رفع الطاقة الإنتجاية إلى 15 مليون برميل يومياً تلى ذلك تصحيح سريع للأسعار، بعدها حل علينا شهر الفضائح (سبتمبر) 2008م لتكشف عن الأقنعة ويصبح من أوصى على الاستثمار يفصح بخجل عن إفلاسه وكان أول المفلسين (ليمان براذرز) رابع أكبر بنك استثماري في أمريكا وعمليات تأميم واسعة لكل من (فريدي ماك - فاني ماي - AIG - سيتي جروب) وغيرهم الكثير من أبطال أزمة الرهن العقاري، قام على إثر ذلك مجلس الشيوخ الأمريكي باعتماد خطة إنقاذ بقيمة 700 مليار دولار وافق ذلك تحقيق كبرى الدول المستهلكة للنفط أرقاماً تاريخية في معدلات البطالة في الوقت الذي تنخفض فيه البطالة لكل من الصين والهند مع نمو ملفت وكبير في الطبقة الوسطى.
هل سيكون المنتدى مايسترو أسواق النفط مستقبلاً؟
وصول عدد سكان الأرض إلى 7.5 مليار نسمة بحلول 2020م كما تتوقع وكالة الطاقة الدولية مع نمو في الطلب بنسبة 3.4% سنوياً بحلول 2030م ونمو في دخل الفرد 2.4% سنوياً بالإضافة إلى تغير الخارطة الاقتصادية بعد الأزمة وظهور عمالقة جدد كانوا ناشئين وعدم توفر البديل الأفضل للنفط حتى الآن لا سيما وأن الدول الصناعية تصارع الانكماش كلها عوامل قد تدفع بالمنتدى في طرح حلول رقابية واستثمارية كفيلة بمنح الاستثمار لهذه السلعة الإستراتيجية، وهناك بوادر تحالف بين المنتجين والمستهلكين تحققت بالفعل في الماضي القريب كانت ثمرة جهود تكللت بعقد اتفاقيات في التكرير والتنقيب وصناعة البتروكيماويات والنقل وغيره من أبرز هذه الشركات التي تحالفت مع منطقة الخليج (شفرون - سينوبك - إكسون موبيل - توتال - شب بي بي)، ولابد أن نشير هنا إلى أن أبرز مهام أوبك هو وضع إستراتيجيات للدفاع عن السعر وأخرى للدفاع عن حصة السوق وتوازن السوق وكل هذه الأماني لم تتحقق بسبب عدم التكامل والتنسيق والتحالف المشترك بين المنتجين والمستهلكين على الرغم من أن أوبك تستطيع أن تضمن أمن السوق إذا وفرت استثمارات 100 مليار دولار لكن بما أن معظم دولها ناشئة فلابد من التعاون. ويبدو أن الأزمة المالية العالمية قد لقنت الطرفين درساً لا يقدر بثمن وحان وقت العمل بروح الفريق الواحد. ولا يمكن الجزم بما سيحدث مستقبلاً لكن يبدو أن ثمة توصيات وإرداة جادة لمنع تكرار ما حدث لأن النتيجة لم تكن حليفة لأي طرف منهما.
(مصادر التقرير: تقارير أوبك السنوية - صندق النقد الدولي - البنك الفدرالي الأمريكي - بورصة نيويورك)