من بين أكثر الكلمات المتداولة في الأوساط الأكاديمية تحديداً، وفي مؤسساتنا ودوائرنا عامها وخاصها هذه الأيام كلمة (الجودة) فأنّى اتجهت يمنة، أو يسرة في أروقتها..
.. وأفنيتها فسيُشنّف أُذنيك رنين وطنين هذه الكلمة، وإن لم يحدثك ذلك فثق أنّ مؤسستك بلغت شأواً عالياً من الجودة والإتقان، ومن هنا فهي تبحث عن مجال آخر ترتقي فيه درجات عُليا. وقد بلغ الأمر من المبالغة فيه وكأننا قد أفقنا على واقع مرير يحتاج إلى انتشال، واستخراجه من مستنقع وحل. واقعنا المعايش يستدعي بالفعل معالجة لجوانب كثيرة في مؤسساتنا، ولكنها لم تصل بعد إلى مرحلة يمكن الحكم من خلالها بأنّ مؤسستنا قد خلت تماماً من كل متطلّبات ومعايير الجودة، ولا يقوم عليها إدارات تُديرها وفق رؤية واضحة في ظل إمكانيات وموارد معقولة. ومن هنا أجد أنّ الهرولة غير المحسوبة الخطى ربما تعثّرت خطواتها في منتصف الطريق وبالتي تحصل انتكاسة في الاتجاه المعاكس فتتلاشى معه، أو على أقل تقدير يخبت ضوء موضة الجودة الساطع التي بدأنا لتوّنا نستنير بأضوائها المشرقة التي في طريقها لإزالة العتمة عن جوانب كثيرة في مؤسساتنا تحتاج إلى معالجة حاسمة سريعة الخطى حتى لا يستشري ويستفحل الداء وحينها تصعب مداواته.
المشكلة لا تتوقف عند الاندفاع المحموم، والسير بسرعة متهورة باتجاه الجودة ومعاييرها، وشؤونها المتعددة المشارب، وإنما في أزمتنا الأزلية المتمثلة في الكيل بالمكيالين المتناقضين في كل شؤوننا، أو بعبارة أكثر دقة الرغبة في تحقيق أمرين متناقضين لا يمكن الجمع بينهما بحال؛ فنحن نريد أن نمتثل لأوامر السيد المسمّى بالجودة حتى نكون لدينا مثل الآخرين برامج معتمدة عالمياً، ومنتجات بمواصفات عالمية معتمدة، ولكننا في الوقت نفسه لا نريد أن نُخضع أنفسنا أسرى لمبادئه، وقوانينه، وحدوده التي تُقيّد تحركنا في فضاء الاستثناء الذي يعشق السباحة والتجديف في فضائه كثير من مسؤولينا، والكثير الكثير من مواطنينا والذين لا يرتضون عنه سبيلاً لتحقيق غايتهم حتى ولو تطلّب الأمر مخالفة صريحة لمبدأ، أو معيار من معايير الجودة الذي تمّ للتو سنّه واعتماده، والتوصية بالعمل بما يقتضيه.
ثقافة (أبشر ..... وأنت تأمر أمر يابو فلان) التي يعزف لحنها بصوت شجي عذب المسؤول الإداري الأول في مؤسساتنا، وثقافة (تكفى يابو فلان شف لنا طريقة منّا ولا منّا ..... ترانا ما نستغني عن فزعتك) التي تسبق الطلب الذي يتقدم به المواطن لقضاء حاجة له عند إحدى مؤسساتنا يجب أن تكون خارج الحسابات إن أردنا أن نلحق بركب المجوّدين؛ لأنّ الجودة الشاملة لا تقبل التجزئة، والانتقائية فهي ذات معايير ومتطلّبات محددة يجب تطبيقها جميعاً في كل حقل من حقول، وأنشطة، وبرامج، وإدارات المؤسسة المعنية من دون محاولة الالتفات يمنة ويسرة من أجل إما انتقاء المناسب منها، أو تخطّيه وتجاوزه برمّته.
ورب قائل يقول: إن هذا الطرح يعتريه فهم قاصر في تركيبة المجتمع وثقافته، أو أنه ينحى نحو المثالية التي لن تتحقق في القريب المنظور، وحتى البعيد. والجواب أنه لا خيار لنا إن أردنا منتجاً ذا مواصفات عالية، ومنافس في عالم اليوم إلاّ تطويع هذه الثقافة البالية الهادمة لكل عمل ينشد الإتقان والإجادة والتميُّز والريادة. وذلك لن يتحقق إلاّ عن طريق الرفع من وعي المواطن بمتطلّبات ومستحقات الوقت الراهن التي لن يتم الوصول إلى سقفها العالي في ظل مطلب يقول فيه صاحبه: (إما أن تمد يد العون لنا، أو أنك ما فيك خير لأهلك و من يعز عليك)، أو (وش معنى أنا فقط يُطبّق عليّ هذا النظام، أو ذاك، وغير لا). وذلك يستدعي أيضاً إعادة هيكلة وبرمجة لعقول من يتولّون إدارة مؤسساتنا، وتحديداً يجب أن تكون هناك وقفة صادقة يتم فيها الإيضاح لهم دون مواربة أن مواقعهم القيادية تتطلّب منهم العدل، والإنصاف، والانضباط، والعمل على تحقيق أعلى درجات الإتقان، والتوقف عن استغلال المنصب القيادي الذي يتسنّمونه لتحقيق مكاسب شخصية من جراء إسداء معروف لفلان وعلان بالرغم من وجود مخالفة صريحة لمبدأ، أو معيار من معايير الجودة الرئيسة.
نحن بحاجة ماسة أكثر من ذي قبل إلى إزالة هذه العقبة الكأداء الكبرى عن طريق الجودة المتمثلة باختصار في ثقافة (أبشر و تكفى) وإلاّ سنظل في مكاننا نراوح مهما بذلنا من الجهد، والتخطيط، ومحاولة البداية من حيث انتهى الآخرون في ميدان الجودة، يستوي في ذلك تطبيقات إدارة الجودة في الأداء التربوي والتعليمي، وفي قطاع المال والأعمال فيما يتعلّق بتحسين جودة المنتجات، والخدمات التي تقدم للعميل، ومثلها كذلك محاولة زيادة الكفاءة التشغيلية والبيعية في المؤسسات الصناعية، والرفع من أداء العمل في الهيئات والمنظمات. وتقاعسنا عن محاولة تغيير هذا الواقع، والاستسلام له، والنظر له على أنه قدر محتوم يجعل من العبث الركض المحموم باتجاه تحقيق جودة شكلية مخترقة من قبل ثقافة مجتمع غير راغب في أنظمة تُقيّد حركته الراغبة في الانفلات من كل ضابط، وسلوك إداري لا يراعي المصلحة العليا، وينظر للجودة وكأنه كابوس سيحد من الاستفادة الشخصية القصوى من جراء بقائه على كرسي الإدارة.
وإن كنت قد ابتدأت الحديث بنقد الاندفاع غير المدروس نحو مفهوم الجودة الشاملة، إلاّ أنني يجب أن أشير وأؤكد في الختام على حقيقة مهمة، وهي أن تطبيق إدارة الجودة الشاملة يُعدُّ بحق إحدى مستحقات عصرنا الراهن، وأهم الخيارات الإستراتيجية التي نحن بأمس الحاجة إليها من أجل إحداث تطوّر نوعي لدورة العمل في مؤسساتنا بما يتلاءم مع المستجدات في كل ميدان، ومن أجل مواكبة التطورات الساعية لتحقيق التميز في كافة الأنشطة التي تقوم بها مؤسساتنا، وفي ظل التداخل العالمي الذي يترتب عليه الالتزام بالمواثيق والمعايير حسب المؤشرات العالمية في كل مجال، وذلك يعود أيضاً بشكل خاص إلى أنّ مؤسساتنا التربوية - بالنظر إلى أنّ التعليم المؤشر والمقياس الحقيقي لحضارة وتقدم الأمم وتطوّرها، ولأنّ المنافسة على الموارد البشرية ستكون هي السمة السائدة في السنوات القليلة القادمة - مطالبة أكثر من ذي قبل في السعي الحثيث من أجل الرفع من مستوى جودة المنتج التعليمي حتى يكون بإمكانها سد حاجة سوق العمل، بالكوادر الوطنية المؤهلة علمياً من قبل كليات وجامعات معتمدة تطبق معايير الجودة، أو بالأحرى تقوم بتطبيق إدارة الجودة في الأداء التربوي في محاولة منها لتحسين بنية النظام التعليمي بمكوّناته المادية والبشرية الذي ينبغي أن يُدار من خلال عمل منظم يسير في مسار واضح ذي رؤية ورسالة، ويعمل على تنفيذ استراتيجيات تسعى للوصول إلى أهداف محددة. وبالنظر إلى هذه الأهمية المتعاظمة يوماً بعد آخر أجد من الضرورة بمكان أن نقوم بحملة واسعة لنشر فكر وثقافة الجودة، وبخاصة بين أوساط أصحاب الفكر المقاوم لها من مسؤول ومواطن يُبجّلُ ثقافة أبشر وتكفى.
alseghayer@yahoo.com