كثيراً ما يستوقفني قول الله - جل في علاه - : {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}, فأسأل نفسي: أليس هذا الاختلاف يضفي على حياتنا تنوعاً، ويوسع آفاق معرفتنا دون استخدام القوة، وتهميش الآخرين في تحقيق الحد الأدنى - على الأقل - من المفاهيم والمثل والقيم المشتركة لتحقيق الغاية المنشودة؟.
إن قبول الآخر لا يعني بالضرورة اقتناعي برأيه، فللكل الحق في اتخاذ التصور الذي يراه، وإنما هو إقرار بوجود رأي آخر. فالاختلاف سنة كونية، يطبعه النقد. بل هو جزء من حال التعدد في الكون كله، فالكون لا يسود إلا بالتعدد، والاختلاف بين الآراء، لذا فإن احترام إنسانية الآخر واجب شرعاً، والعدل معه علامة من علامة التقوى. كما أن قبولنا بالآخر يحمل في طياته بعداً إيجابياً يتمثل في تبني الحقيقة كما نراها، دون أن ندعي امتلاك الحقيقة كلها. فالحق لا يعرف بالرجال، بل يعرف الرجال بالحق.
إن الحوار مع الآخر، يبحث عن قواسم مشتركة بين مكونات المجتمع، لننظر للأمور - حينئذ - بمنظار مختلف، والتفكير بطرق جديدة، والوقوف طويلاً للنقاش، والبحث عن الحقيقة. فالحوار يجب أن يكون هو الفصل والفيصل، كما عبر عنه ربنا - سبحانه - في قوله: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. وهو البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، في إطار التنوع ضمن الوحدة، والوحدة ضمن التنوع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن ترسيخ ثقافة قبول الآخر عن طريق ترسيخ لغة الحوار، هو إقرار حقوق كل المكونات الفردية من تبادل الأفكار والبراهين والحجج، لنستوعب مدركات العالم من حولنا، طالما أن هذا الاختلاف لا يمس الأمور العقدية، أو الثوابت الدينية، ويمنع التطاول على الرموز الدينية والأشخاص، ويركز على معالجة الأخطاء لا شتم المخطئين.
من هنا يجب أن نبدأ، فما مضى من كلام، يعني: إيجاد مساحة مشتركة بين كل الأطراف بتنوع الفكرة، دون أن نختصر تجارب الآخرين، أو نستهجن ونهمش وجودهم، وتضييق جسور المسافات، لنبني ثقافة متكاملة. وما أجمل كلام الشاطبي - رحمه الله - في خطبة كتابه (الاعتصام)، حين قال: (وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويخص سؤاله بل سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع في المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفين). ألسنا مطالبين اليوم أكثر من أي يوم مضى بقبول الآخر، - ولاسيما - وقد أفرز عدم الانفتاح على الآخر انغلاقاً فكرياً، بسبب التقاطع مع الأجندات الفكرية، فيكون هذا القبول منضبطاً بالضابط الشرعي أولاً، وبالضابط الإنساني ثانيا.
drsasq@gmail.com