تكمن أهمية المعرفة بأنها أصبحت معياراً لقياس مستوى تقدم الأمم وتصنيفها.. لقد كان القرن العشرون مولداً للعديد من التقنيات التي قفزت نوعاً وكماً خلاله في جميع المجالات لخدمة الإنسانية.. بحيث باتت تحمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية وطبية وثقافية، ودخلت تطبيقاتها.. بل فرضت نفسها على جميع وسائل الاتصالات والحوسبة والإلكترونيات والمعدات والأدوات بشكل عام.
يتجه الاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين أكثر من أي وقت مضى نحو الاستثمار المعرفي، كما يزداد اعتماد النمو الاقتصادي والاجتماعي على المستوى التقني وعلى نمو هذا المستوى.. إن ضعف المستوى التقني وضعف نموه أدى على مر العقود الأخيرة إلى ازدياد نسبة البطالة.. وبخاصة بين خريجي الجامعات والمعاهد، وضعف التنوع الاقتصادي، وانخفاض معدلات النمو، وهجرة العقول ورؤوس الأموال، وزيادة المديونية.. هذا كله أدى بالتالي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي.. وعليه إلى عدم المقدرة على التنمية الاجتماعية والإنسانية في الدول النامية.. والجدير بالذكر وحسب إحصائيات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن ما يزيد على 50% من الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاديات الدول الكبرى العالمية مبني على اقتصاديات المعرفة.
لا شك أن النظر إلى المستقبل هو أساس فكرة التقدم، ولذلك لم يكن غريباً أن تكون المجتمعات التي سيطرت عليها فكرة التقدم هي نفسها المجتمعات التي تضع أكبر الاهتمام في الاستثمار المعرفي.. من هذا المنطلق أيقنت الدول المتقدمة أهمية المعرفة كمورد اقتصادي لا ينضب، فذهبت إلى الاستثمار في بنيتها الأساسية منذ ما يقرب من 30 عاماً مضت، واستطاعت بالفعل أن تُؤتي بثمار هذا الاستثمار في صورة عائد اقتصادي يساهم في تنمية الدخل الوطني لهذه الدول.. وبالتالي أصبح من الضروري إلقاء الضوء على كيفية الاستفادة من المعلومات والمعرفة، وكيفية الاستثمار فيها بهدف تنمية وزيادة دخل المؤسسات العامة والخاصة.. وبالتالي الدخل الوطني.
عند التفكير في المدن الكبرى مثل لندن ونيويورك يتبادر إلى الذهن الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي.. عبر التاريخ، كانت المدن الكبرى والمناطق المحيطة بها تُمثّل المراكز الرئيسة للابتكار في مجالات متنوعة ومختلفة، نتيجة للتراكمات الفريدة من المواهب والثروة.
ونظراً إلى أهمية تقنية المعلومات في الانتقال من العصر الصناعي إلى عصر المعرفة، وعلى مدى الثلاثين سنة الماضية شهدنا ظهور وادي السيليكون ومراكز الابتكار القليلة الأخرى التي تعتمد على التكنولوجيا، مثل مدينة بوسطن، التي تتمحور حول الجامعات الهندسية الكبرى.. بالإضافة إلى جامعة ستانفورد، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT).
لكن المثير للاهتمام هو ما يحدث الآن.. بينما تمثّل تقنية المعلومات إلى حد كبير المحرك الدافع لعصر المعرفة، فإن الجزء الأعظم من الابتكارات في المستقبل، والتي تؤدي إلى النمو الاقتصادي ليس من المرجح أن تكون ناتجة من التقنيات والمنتجات القادمة من المعامل.. بل من تطبيقاتها خارج المختبرات. الأنشطة والأعمال التي يشارك بها الأفراد، سواء كانوا مستهلكين أو مقدمين للخدمات، سوف تكون ذات أهمية خاصة.. وهذا يعني أن فرصاً أكبر من أجل الابتكارات، والإنتاجية، وخلق فرص العمل، والنمو الاقتصادي يمكن الآن تحقيقها من خلال تطبيق التقدم الهائل في تقنية المعلومات والإنترنت، والتقنيات متناهية الصغر لمعالجة مشاكل سوق العمل والمجتمع عموماً، في مجالات الصناعة، والرعاية الصحية والتمويل، ووسائل الإعلام.. إن الاستثمار في أسواق تقنية المعلومات سيكون جوهر الاقتصاد القائم على المعرفة.
على سبيل المثال، لننظر إلى معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) في الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ أن أُسس المعهد، وهو رائد في تشجيع الباحثين على العمل بروح الفريق في جميع المجالات مع تخطي الحدود المؤسسية وحدود التخصصات والكليات.. وقد أدى ذلك إلى إنشاء علاقات التعاون المشترك بين المعهد والصناعة.. مما أثمر عن تأسيس الآلاف من الشراكات والمؤسسات البحثية الرائدة، مما ساهم في بناء الاقتصاد المعرفي والتنمية المستدامة للولايات المتحدة الأمريكية.
فقد تميز معهد (MIT) بحل المشكلات التقنية الحقيقية على المستوى العالمي، فهنالك حالياً أكثر من 800 شركة تعمل مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب على المشاريع ذات الاهتمام المشترك، ومن بين هذه الشركات العالمية الرائدة: شركة بي أيه اي، وبي بي، ودو بونت، وايليكتريكت دو فرانس وشركة ايني، وفورد موتورز، وشركة ميرك، ونوكيا، وشركة نوفارتيس، وشركة كوانتا كومبيوتر، وروبرت بوش، وشركة شل وتوتال، وغيرها.
وقد نشط معهد (MIT) في تسجيل براءات الاختراع وترخيص التقنيات ونقلها إلى الصناعة، ففي عام 2009م عمل المعهد على تسجيل 131 براءة اختراع، ومنح ما يزيد على 67 رخصة.. ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة ريادة كوفمان في عام 2009م، ما يزيد على 25 ألف شركة تم تأسيسها من قبل المعهد مما ساهم في خلق 3.3 مليون وظيفة وتريليوني دولار في المبيعات السنوية العالمية.. كما وتصدر المعهد المرتبة الأولى في تمويل الصناعة من نفقات البحث والتطوير بين جميع الجامعات والمؤسسات العلمية وفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة العلوم الوطنية، حيث بلغت البحوث الصناعية المعرفية التي يرعاها المعهد 116 مليون دولار في عام 2009م، أو ما يعادل 16 % من مجموع تمويل البحوث في المعهد.
كما لعب خريجو وطلاب وأعضاء هيئة التدريس في معهد (MIT) دوراً رئيساً في إطلاق الآلاف من الشركات الناتجة عن المخرجات البحثية في جميع أنحاء العالم، بدءاً من الشركات الصغيرة، المتخصصة بالتقنية الفائقة إلى الشركات العملاقة مثل شركة: اكاماي وجنينتيك وجيليت وهيوليت باكارد ورايثيون وشركة تيرادن.. حيث شكَّل العديد من هذه الشركات حجر الزاوية في الاستثمارات المعرفية الحديثة على المستوى العالمي، بما في ذلك التقنية الحيوية، والتقنيات الرقمية، والشبكات الحاسوبية المحلية، والدفاع، وشبه الموصلات والحواسيب الصغيرة، والحواسيب المتطورة، ورأس المال الاستثماري.
كما أنشأ معهد (MIT) مركز ديشباند للابتكارات التقنية في كلية الهندسة في عام 2002م بهدف زيادة أثر المعهد في الأسواق العالمية، ولدعم مجموعة واسعة من التقنيات الناشئة بما في ذلك التقنية الحيوية، والأجهزة الطبية الحيوية وتقنية المعلومات والمواد الجديدة والتقنية متناهية الصغر (النانو)، وابتكارات الطاقة.. ومنذ عام 2002م، موَّل المركز ما يزيد على 80 مشروعاً وما يزيد على 9 ملايين دولار أمريكي على شكل منح.. كما انبثق عن المركز 18 مشروعاً استثمارياً في مجال المعرفة وبرأسمال استثماري يزيد على 140 مليون دولار أمريكي، حيث استثمرت في هذه المشاريع ما يزيد على 13 شركة كبرى.
بناءً على ما تقدم، فإن الاستثمار المعرفي هو المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي.. واقتصاديات المعرفة تعتمد على توافر تكنولوجيات المعلومات والاتصال واستخدام الابتكار والتقنيات متناهية الصغر.. كما أن الموارد البشرية المؤهلة ذات المهارات العالية، أو رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة.
ومن هذا المنطلق فإن جامعة الملك سعود أطلقت رؤيتها في مرحلتها التطويرية الحالية لتحقيق عائد كبير في مجال الاستثمار المعرفي كونه حجر الزاوية للاقتصاد المعرفي، وهي رؤية تأسست من توجهات الدولة -رعاها الله- بقيادة خادم الحرمين الشريفين.. وسمو ولي عهده الأمين.. وسمو النائب الثاني - حفظهم الله- في تمكين الاقتصاد الوطني وتنويع مصادره لتكون المعرفة أحد أهم تلك المصادر.. وبالتالي أطلقت الجامعة برامج تطويرية تحقق هذه الرؤية ومنها على سبيل المثال مشروع وادي الرياض للتقنية، ومشروع أوقاف الجامعة، وبرنامج كراسي البحث، وبرنامج التميز البحثي، وبرنامج استقطاب علماء نوبل والأستاذة المتميزين، وبرنامج ريادة الأعمال.
مخطط مشروع وادي الرياض للتقنية
فوادي الرياض للتقنية على سبيل المثال هو محضن رئيس للاستثمار المعرفي ضمن حراك الجامعة التطويري.. حيث إن الشركات الناشئة (Spin Off الجزيرة Start Up) التي تنتج من الأفكار الإبداعية والمبتكرة لطلاب وطالبات وأعضاء هيئة التدريس في الجامعة تؤسس من خلال مراكز الابتكارات وحاضنة الرياض للتقنية وبرنامج الملكية الفكرية وجميعها تحقق إنتاجاً معرفياً في شكل براءات اختراع مسجلة أو شركات ناشئة يقوم وادي الرياض للتقنية بالترخيص لها لتشق طريقها في مجال المال والأعمال والمجال الصناعي، وتضيف للاقتصاد الوطني وتحقق التنمية المستدامة المنشودة، وهذا المفهوم في مجمله يكون الانطلاقة العملية لبناء ما يُعرف ب «الاقتصاد المعرفي».
****
المراجع:
http://web.mit.edu) -1)
Organization for Economic Co-operation and Development «OECD») -2)
* مدير جامعة الملك سعود