في أحد أعرق المستشفيات الجامعية في العالم، كان أحد أفضل جراحي القلب بالعالم، يقوم بتدريب الأطباء، ولكن النتيجة هي فشل الأطباء في الوصول لمستوى الاستشاري، فتمت الاستعانة بخبراء متخصصين (بتوثيق الخبرة) ولم يتركوا شيئاً إلا وسألوه للاستشاري ورغم ذلك كان الأطباء يفشلون في عملياتهم بينما ينجح هو!
فقاموا بتصوير الاستشاري وهو يمارس الجراحة، وبعد مراجعة الشريط أكثر من مرة، توقف أحدهم وسأل الاستشاري قائلاً: لماذا خلعت قفازة يدك هذه اللحظة وأنت تمارس الجراحة ؟ فأجاب بكل برود: لأن الشريان سينزلق من يدي ولابد أن أخلعه!
فصرخ كل الحاضرين مُرددين: (هذا هو السر، هذا هو السر)!^
إن المتأمل لواقع قطاع الأعمال لدينا سينتابه الكثير من التساؤلات حول التجارة، وهل هي غاية أم وسيلة، وماالفرق بين المال والتجارة؟
وماهو معيار النجاح الذي نقيس به، فهل هو حجم الثروة أم الإنجازات وماذا عن المجتمع؟ وماذا عن توثيق الخبرة ؟ وكيف لنا أن نُحولها إلى علم ومهارات كما فعل أساتذة الإدارة في العالم وكما فعل الفريق الطبي مع خبرة صاحبنا الاستشاري؟
ولنتأمل مثلاً في سيَر سليمان الراجحي وصالح كامل وسعيد لوتاه، فقد حققوا ثروةً بعشرات المليارات إن قسنا النجاح بالثروة، وكانوا رواداً للمصرفية الإسلامية، ولهم مساهمات اجتماعية عظيمة، ورغم ذلك فإنني أرى أننا أمام مُفكرين مبدعين ورواد وليسوا تُجاراً فقط!
فمن يستمع لسليمان الراجحي وهو يتحدث عن الزراعة العضوية أو الصناعة أو العمل الخيري ومنهجيته وعمق أفكاره رغم بساطته اللغوية وعاميتها، أومن يتأمل أكثر لحديث صالح كامل حول الاقتصاد الإسلامي وفهمه العميق لفلسفته وغوصه في الأعماق والمقاصد والمآلات، ليعجب أكثر، وليقول في نفسه من أين له هذا والذي لم نسمعه لا من العلماء ولا من الأكاديميين ولا من الاقتصاديين، وكذلك أفكاره الإبداعية في مشاريعه الريادية!
وأما سعيد لوتاه فذلك قصةٌ أخرى تحتاج لكتب وليس لمقالات بدءاً من تفسيره الجميل لحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده). والذي يقول: إنني أفهم أن الحديث يقصد بأن تُقدم بديلاً وليس أن تضرب الناس أو تشتمهم!
وهذا ما عمله سعيد لوتاه فعلاً فعندما فتحت البنوك التقليدية في دبي قام بتأسيس أول مصرف إسلامي في العالم!
وعندما لم يعجبه النظام التعليمي قام بتأسيس مدارسه وفق فلسفته التي تقول بأن الإنسان مُكلف منذ أن يبلغ الخامسة عشر عاماً فكيف لا نُكلفه نحن البشر بالعمل وقد كلفه الله!
ومن لم يقتنع بذلك فليشاهد خريجي مدرسته المهندسين وهم يقودون مشاريع عقارية عملاقة رغم أن أعمارهم لم تتجاوز الخامسة عشر! فضلاً عن مشاريعه الإنسانية الإبداعية في البيت المُنتج الذي يعمل بالطاقة الشمسية والرياح ويوفر الماء والكهرباء، أو اليخوت التي تعمل بالطاقة الشمسية أيضاً وهي من صنع تلاميذه ومن رؤيته وإبداعه!
والعجيب أيضاً أنك عندما تستمع له وهو يتحدث بعاميته الإماراتية ببساطة شديدة تظن أنه إنسان عادي جداً ولكن عند التأمل لتحليله للآيات والأحاديث ورؤيته الاقتصادية والإدارية والاجتماعية ستجد أنك أمام فيلسوف عظيم ومفكر كبير مارس أفكاره وتطلعاته على أرض الواقع ولم يرتكن للتنظير أو للتذمر والشكوى!
وللعلم فإن لوتاه لم يدرس سوى في الكتاتيب ولكنه تجاوز حمَلة الدكتوراه بكثير من الفهم والعزيمة والإيمان والعمل الجاد والمتواصل والذي أثمر لنا فكراً وإنتاجاً وإبداعاً!
وأخيراً، أتمنى أن يأتي يوم تتبنى فيه جامعاتنا عملية توثيق الخبرة لمثل هؤلاء الرواد، وأن تنشئ لنا مراكز لإعداد القادة ومراكز لإعداد المفكرين بدلاً من عملية التعليم التلقيني والتركيز على الكم وعلى المباني.
(إن أعظم الثروات تُجنى من الإنسان والمعرفة، لا من الكم، والجدران)!