مشهد قديم حديث، أو لأقل: “مشهد متجدد”، أدوّن هنا بعض أحداثه لعله يُوخز ضمائر أولئك الذين ما زالوا يتمسكون بمظاهر شكلية ما أنزل الله بها من سلطان، وهي حتماً زائلة بكل بريقها!

بالأمس القريب، زارني أحد الزملاء تكسو وجهه زرقة الاختناق، وبالكاد يحمل رأسه ويحرك قدميه! حاولت رسم ابتسامة السعادة برؤيته، فمنذ ما يقارب السنتين لم أره! إلا أن الابتسامة استعصت عليَّ لهول الهمّ الذي يثقل كاهله! رحبت به معانقاً، فزادتني رجفة خدّه حزناً وألماً، شددت على يده، وفردت ذراعي على كتفيه حتى جلسنا، ثم نظرت إليه، فإذا به يستسلم لدموعه وينتزع القهر والألم من صدره عبر كلمات تتعثر حروفها بين أسنانه!

قال: ابنتي يا أبا علي! لقد أجرمت في حقها، تسرعت في تزويجها! واستطرد يروي تفاصيل مقته بصوت باكٍ، وأنفاس متقطعة، تارة تدمع عيناه بصمت، وتارة أخرى يغلبه القهر فيجهش بالبكاء! بذلت قصارى جهدي لأحبس دمعتي، ولكن هيهات! دنوت منه واحتضنته، وبحنان خالص همست: هوّن عليك يا صديقي، فما من مشكلة إلا ولها حل!

قال: (خلاص)، تحطمت آمال ابنتي وقُتلت أحلامها، لقد خلعتْه وخسرت كل شيء!

وددت، بل تمنيت، لو أتمكن فأزيل الألم من داخله، لكني شعرت بخيبة العجز عن ذلك، كل ما فعلته هو أنني استمعت إليه بإنصات وشاركته الهم بحزن وألم!

غادرني صديقي بعد أن أخرج كل ما بداخله، وجلست أتأمل أحوال البشر وتقلبات الزمن، وسبحان الله! شتان بين زيارته هذه، وتلك التي قبلها، حينما أقبل نحوي، والسعادة تشع مع بريق عينيه، وتزين إشراقة وجهه، حاملاً لي بطاقة دعوة، صممت بعناية فائقة وطبعت بجودة عالية، لحضور زفاف ابنته! كان يطير من الفرحة وهو يحدثني عن صهره الجديد، عن ذكائه وثرائه ومكانته الاجتماعية، وعن كرمه، إذ ترك لابنته تحديد المهر الذي تريد، وانتقاء شبكتها بلا تردد ودون أدنى اعتبار لثمنها الباهظ، بالإضافة إلى حديثه الساحر عن سمات حفل الزفاف الذي سيقيمه! أما القصة كاملة، فأنّى لي ترجمة أحداثها وتصوير آثارها، ولكن باختصار شديد أقول: تلك المسكينة لم تعش مع زوجها سوى بضعة أشهر، أمضت جُلها في صراع مرير مع أخلاق سيئة وثقافة فاسدة، ولمّا فاق الأمر قوة احتمالها وصبرها، عادت إلى بيت أبيها الذي فشل مرات عديدة في إصلاح حال زوجها، فلم يعد هنالك حل إلا الطلاق، ولكن الزوج - الذي نجح في انتحال هيأة الكريم المعطاء - رفض إمساك زوجته بمعروف أو تسريحها بإحسان! عرض عليه الأب التنازل عن المهر المؤخر، فلم يكتف بذلك، بل طالب بإصرار استعادة كل الأموال التي خسرها! فكان له ما أراد!

يا إلهي، ما أشد قسوتنا على بعضنا! وفي كثير من الأحيان نسلك الطريق الخطأ (دون أن ندري) فنكون أشد قسوة على أنفسنا وعلى أقرب الناس إلينا! أتأمل أبعاد ذلك المشهد وتداعياته، وأستغرب تكراره في بيوتنا من حين إلى آخر، وأتساءل: تُرى أين الخلل؟ ومن المسؤول؟ لقد أغرقنا أنفسنا في أعباء شكليات لا تمت إلينا بصلة! مهر مرعب، المقدم منه والمؤخر، وشبكة عنيدة بتفاصيلها وألوانها، واحتفالات تقصم الظهر، وتفقر الجيب، وتصنع القيل والقال، فكما قيل: إرضاء الناس غاية لا تُدرك! والنتيجة المؤلمة نشهدها أمام أعيننا، إما تعطيل الزواج وازدياد معدل العنوسة، أو الانغماس في مشكلات أسرية تقتل الحياة! أو السقوط في متاهات الطلاق وضياع الأبناء! أو الهلاك في زواج ثانٍ وثالث بنية الكيد والانتقام!

فهل من وقفة صادقة مع أنفسنا نتحسس من خلالها معالم النور الذي أرشدنا إليه رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”!؟! وحيث قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”!؟!

هل نستوعب؟!.. وهل نستجيب؟!