يعتبر كثير من المتابعين خطة الإصلاح الصحي للرئيس الأمريكي أوباما، بأنها ثورة بيضاء داخل النظام تقترب من (البيروستريكا) الروسية، كونها قفزاً وتحدياً للكثير من ثوابت الرأسمالية الأمريكية التي قامت في مجملها على حرية رأس المال، وخضوع السوق لقانون العرض والطلب، مع قداسة الشركات الكبرى التي تمثل نخبة الإمبراطورية الأمريكية.
ولكن يبدو أنّ الرئيس الأمريكي ماض في عزمه على دخول التاريخ، عبر إصلاحات ثورية كان أولها كسر (تابو) ثقافة الأنجلو - ساكسون، التي هيمنت على الرئاسة الأمريكية منذ تأسيسها، كأول ملوّن يصل إلى سدّة مقعد الرئاسة، ليجد لها حيزاً مناسباً بجوار أبراهام لنكولن داخل كتاب التاريخ. ومن ثم يستمر في زحزحة الكثير من الثوابت الأمريكية الكبرى من خلال تحقيق وعوده الانتخابية بحلول اقتصادية جذرية لإخراج الاقتصاد الأمريكي من حالة الركود التي دخل بها، وكان لها انعكاسات سلبية كبيرة المدى، سواء من خلال إفلاس بعض الشركات الكبرى أو ارتفاع نسب البطالة.
ففي بداية عهده دعمت الخزانة الأمريكية الاقتصاد الأمريكي بحوالي 800 مليار دولار لتحريك الركود، بسابقة تاريخية تخوّفت منها الكثير من الأوساط الاقتصادية، خشية أن تؤدي إلى هيمنة الدولة على الاقتصاد بشكل يشبه التأميم.
ومن ثم لاحقاً خاض معارك قوية سواء مع أفراد من حزبه أو من الجمهوريين، ليستطيع تمرير قوانين الرعاية الصحية، بداية في مجلس النواب ومن ثم في الكونجرس، قبل أن تتحوّل تلك الخطة حقيقة واقعة وقّع بنودها الأسبوع الماضي، وبذلك دخل التاريخ كرئيس رجّح الجانب الإنساني، ضد طغيان الرأسمالية التي تحكّمت بها شركات التأمين الصحي، و التي لم تكن تمنح تكلفة الرعاية الصحية سوى لأولئك الذين هم في سوق العمل، وعدد محدود من كبار السن، ولكن خطته هذه شملت 33 مليون مواطن أمريكي كانوا سابقاً خارج الرعاية الصحية.
ومع تخوُّف الكثير من دافعي الضرائب الأمريكيين من تلك الإجراءات كونها تدخلاً سافراً من الدولة في السوق، الأمر الذي من شأنه أن يخلق اقتصاداً مرتبكاً بطابع اشتراكي، وبالتالي تنحدر فيه نوعية الخدمات نتيجة لغياب المردود والمنافسة، وما في ذلك من تحدٍ واضح لثوابت السوق الأمريكية، لكن أوباما ماض في خطته واستطاع أن يمررها لتصبح حقيقة واقعة في الولايات المتحدة، مغلباً البعد الإنساني (الذي على الغالب يتلاشى مع الشراسة الرأسمالية) عندما أهداها إلى روح أمه قائلاً: (كنت أرى بعجز آلامها ومكابدتها مع شركات التأمين الصحي خلال علاجها لمرض السرطان الذي أصابها في أخريات حياتها).
إمبراطورية رأس المال دخلت في منعطف كبير في تاريخها، قد لا يمثل تحولاً جذرياً و لكنه بالتأكيد سيحيلها إلى دولة تستطيع دوماً أن تقفز وتنهض من ركامها ورمادها مستقبلة أفق الجديد والمختلف.