المجتمعات الذكية هي تلك التي تبادر بتفحص أجزائها ووظائفها وآلياتها وتفي بكافة الاحتياجات والمتطلبات التي تمكّنها من المحافظة على أصولها البشرية وإنتاجيتها المجتمعية ورفاهيتها وأمنها، تلك هي إحدى حقائق الهندسة
الاجتماعية، وسوف نعرض لهذه الحقيقة في مجال اجتماعي لم ينل منا أي عناية تذكر.
حديثي في هذا المقال عن الوظائف الحكومية (المغيبة)، وذلك أنني سوف أركّز تحليلي حول (الوظائف الجديدة) التي أصبح المجتمع بحاجة إلى إيجادها، وهي وظائف مغيبة أي ليست حاضرة في قائمة الوظائف الحكومية المعتمدة، وأحسب أن موضوعاً خطيراً كهذا يلامس الاحتياجات المتجددة للمجتمع، لذا فإني أرجو أن ينال من الجهات المعنية ما يستحق من العناية، وأخص بذلك وزارة الخدمة المدنية.
القاعدة العامة بخصوص إيجاد الوظائف الحكومية الجديدة هي صدور مبادرة من جهات التأهيل والتعليم والتدريب والتوظيف على شكل طلبات مبررة بإيجاد وظائف معينة، بتوصيف محدد ونماذج معتمدة ورفعها إلى وزارة الخدمة المدنية للنظر في مسوغاتها ومن ثم اعتمادها في حالة تناغمها مع الإطار المعتمد للتوظيف، وهذا إجراء سليم ومعمول به في مختلف دول العالم، بغض النظر عن مدى دقة أو جودة أو سرعة تنفيذ الخطوات الإجرائية من قبل الجهات المعنية.
وما يهمني في هذا المقال هو أن ثمة (وظائف جديدة) يحتاج إليها المجتمع؛ بسبب الحراك الاجتماعي وتغير الأنماط الثقافية والمعاشية، وفي الوقت ذاته لا توجد جهة محددة تشتغل على تحديد تلك الوظائف وتطالب وزارة الخدمة المدنية بإيجادها واعتمادها، وهنا نقع كمجتمع في منطقة (فراغ توظيفي) إن صح التعبير، إذ لا أحد ينشط لإيجاد تلك الوظائف وبذل كافة المساعي الرسمية والخطوات الإجرائية لنيل تلك الوظائف، لاسيما أن اعتماد الوظائف الحكومية ليس بالأمر الهين ولا باليسير.
وبحسب علمي أنه لا توجد لدينا أي قناة رسمية ولا آلية معتمدة للتعاطي مع مثل تلك الوظائف التي بتنا نحتاج إليها، وأصبحنا ندفع تكاليف باهظة - كما سنوضح لا حقاً - من جراء غياب تلك الوظائف، ومن ثم فلدينا مسوغات مقنعة لمطالبة وزارة الخدمة المدنية باستحداث مثل تلك القنوات وإيجاد مثل تلك الآليات، ولكي يكون الحديث أكثر وضوحاً فقد يكون من الواجب علي أن أطرح بعض الأمثلة التطبيقية التي تؤكد صحة ما سبق.
دأبت الأمانات والبلديات في مناطق المملكة المختلفة على إيجاد حدائق وساحات بلدية بالإضافة إلى أماكن لألعاب الأطفال داخل الأحياء، ومعلوم أن تلك الخدمات الترفيهية الجديدة تحتاج إلى منظومة من الوظائف المتعددة التي تضمن توفير باقة متكاملة من الخدمات، فنحن نحتاج إلى من يضبط ويراقب تصرفات الناس والأطفال ويتأكد أنها تتم وفق الأنظمة المعتمدة من حيث حسن استخدام الأصول والمرافق العامة، كما أننا نحتاج إلى من يراقب الأطفال أثناء اللعب ليتأكد من توافر عوامل الحماية اللازمة والتأكد من أنه ليس هنالك عوامل تتهددهم بما في ذلك الاستخدام غير الدقيق للألعاب أو التهور في ذلك، ويدخل في ذلك أيضاً تجنبيهم كل من يتحرش بهم من (الأشرار)، وأنا هنا أنبه إلى خطورة التحرش بالأطفال فهو أمر مشاهد وملموس، ولا يسوغ لنا أن نوهم أنفسنا بغير ذلك، بل يتوجب علينا أن نكون على درجة من المصداقية والشفافية التي تؤهلنا لنوع من التفكير الجاد بإيجاد حلول عملية، خصوصاً أن الوعي الاجتماعي لدى بعض الشرائح ضعيف بحيث أنهم يسمحون لأولادهم بالذهاب لوحدهم إلى أماكن الألعاب أو الساحات البلدية أو الحدائق العامة، وحتى لو افترضنا مرافقة أولياء الأمور لأولادهم فإنه لابد من التأكيد على ضرورة تواجد (موظفين حكوميين) ليقوموا بتلك المهمة بأعداد كافية وتدريب مهني متكامل. وبالمناسبة فقد رأيت في بعض الدول المتقدمة ممارسات مميزة في هذا المجال، فتلك الدول تخصص موظفين مسئولين عن توفير مثل تلك المقومات السالفة الذكر، وللتأكيد على ذلك أذكر أنني كنت جالساً في قلب لندن في حديقة صغيرة جداً (لا تتعدى 300 متر) في صيف 2006، وإذا بي أفاجأ بأن موظفاً مسئولاً عن تلك الحديقة يطلب مني مغادرتها قرابة الساعة التاسعة مساءً، ويقول لي: الدوام انتهى ولابد من إغلاقها. إذن نحن بحاجة ماسة إلى موظفين في الحدائق والساحات البلدية وأماكن ألعاب الأطفال مع التأهيل المهني والإطار الأخلاقي اللازم للموظفين المستهدفين في تلك المجالات الحيوية.
وهنالك أمور أخرى تقلقني كثيراً وأعتقد أننا بحاجة إلى استحداث وظائف جديدة لها، من أجل تحقيق (مكاسب اجتماعية) والتقليل من تكبدنا ل(خسائر اجتماعية) فادحة، ومن ذلك أننا نعاني من ظاهرة تواجد بعض الأطفال والشباب في الشوارع والأحياء - بالذات القديمة والفقيرة منها - مع غياب كامل لأي برامج مقننة أو أنشطة ترفيهية ورياضية وتثقيفية وتوعوية، الأمر الذي يقذف بأولئك الأطفال والشباب إلى مناطق الخطر الحقيقي، ولقد سبق لي كتابة مقال قبل نحو خمس سنوات في جريدة الجزيرة بعنوان: (أولادنا الهائمون في الشوارع.. نموذج لضعف هندسة مجتمعاتنا!)، وقد أوردت في ذلك المقال أسئلة مهمة أستدعي بعضها في سياق إيضاحي لبعض مخاطر إهمال الأطفال والشباب وتركهم يهمون على وجوههم في الشوارع والأحياء:
أليست (الشوارع) تؤهل - بكل اقتدار - أولئك الشباب ليصبحوا عناصر فاشلة في مجتمعهم؟
ألا تمنح الشوارع بعض الشباب فرصاً ذهبية للحصول على بطاقات عضوية في عصابات الجريمة المنظمة وغير المنظمة؟
أليس من المحتمل أن يُستغل بعضهم جنسياً، وما يتبع ذلك من تدمير البنية الدينية والأخلاقية والنفسية والصحية للأطفال المعتدى عليهم؟ خصوصاً أن بعض الدراسات تشير إلى نسبة تقترب من 80% من الأطفال الذين يتعرضون للاغتصاب يمارسونه على غيرهم حين يكبرون!
أليس ثمة احتمال بإمكانية احتواء بعضهم في جماعات التكفير والعنف؟
ألا يمكن أن يتحولوا من (أطفال في الشوارع) إلى (أطفال شوارع)؟
ألا يمكن أن نطوّر آلية محددة للإفادة من طاقم المعلمين والمرشدين الأكفاء في عملية التوجيه والضبط الاجتماعي في أحيائهم بعد تدريبهم وتأهيلهم في مجال الإرشاد الاجتماعي والنفسي مع تخصيص بعض المكافآت المالية والمعنوية لهم في إطار برنامج عمل وطني متكامل تشرف عليه وزارة الشؤون الاجتماعية؟
كل ما سبق يؤكد على أننا نحتاج إلى وظائف حكومية جديدة لتغطية الاحتياجات المتجددة في المشهد الاجتماعي، مع تأكيدي على أن أي تأخير في عملية استحداث مثل تلك الوظائف سيجعلنا نتحمل تكاليف باهظة جداً، كما أنه يعني أننا قصرنا في تقديم خدمات حكومية ضرورية لبعض فئات المجتمع أو لبعض شرائحه، بل ثمة خسائر مجتمعية على مستوى الوطن بشكل أو بآخر، مع تصريحي بأنني لا أحمّل وزارة الخدمة المدنية عن التعاطي مع مثل تلك الوظائف (المعيبة) فيما مضى لعدم وجود جهات محددة تنشط في سبيل إيجادها، لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أجد عذراً للوزارة حين لا تتفاعل مع مثل هذه المطالب عبر إيجاد آليات مقننة لاكتشاف الوظائف المغيبة والإفادة من المصادر المختلفة ومنها المقالات والدراسات والأبحاث، كما أنني أؤكد على ضرورة الإسراع لعقد ورشة عمل مع بعض المعنيين لمدارسة تلك القضية الهامة واتخاذ اللازم، فنحن لا ننشد استحداث وظائف شكلية لا مبرر لها، بل نتطلع إلى الاستجابة الذكية والواعية مع المتغيرات الديناميكية في مشهدنا الاجتماعي وتوفير متطلباته ودفع استحقاقاته.
خاتمة: قيمة التكاليف والخسائر التي نتكبدها من جراء غياب بعض الوظائف الحكومية في مثل تلك المجالات الاجتماعية أكبر بكثير من تكاليفها المالية!.. ومن ذمتي لذمتكم!
Beraidi2@yahoo.com