القرار صناعة مهمة يُبنى على حيثيات الماضي، ومقومات الحاضر، ومراعاة المستقبل، وأي أمة هي المسؤولة عن قراراتها، ولا بد لها من حق اتخاذ القرار وحق تحديد المصير.
وتنتخب الأمة من بين أهلها مجموعة تملك أهلية القرار، ومعرفة خياراته، والتخلق بمسؤولياته، وتحمل نتائجه وآثاره.
وفي هذه الآية الكريمة إيحاءات عجيبة عندما تفقد الأمة بمجموع رجالها وأفرادها.. مسؤولية صناعة القرار، وإحالة القرار إلى فرد يرى أن القرار حقاً لازماً من حقوقه، وشرعاً ثابتاً لا يجوز أن يتعدى على حماه بالنصيحة أو التذكير أو المساءلة أو المراجعة بنجاح القرار أو فشله.
فالقرآن الكريم يرسم في هذه الآية الجليلة منظر تلك الأمة الفرعونية، التي يفتخر بها بعض المنهمكين بالفرعونية الحديثة، التي لم يكن لأمة مثلهم من البناء والتشييد والفكر الذي كشف حقيقته الخبر من رب العالمين، وكيف أن تلك الأمة أسلمت زمامها لرجل منها كان يدعي الألوهية لنفسه دون رب العالمين، وكفى بذلك سخفا في العقول، وضلالا في الفطرة، ومسخا لمقدرات تلك الأمة وعقول أفرادها، الذين انقادوا كالبهائم لذلك القرار الجائر: (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
فصاحب القرار لا يمتلك عند قراره إلا سبيل تزيينه وزخرفته لأولئك المغررين المفتونين بذلك العظيم وقراراته، فلا يرون إلا محاسنه، وإن رأوا غير ذلك، لم يكن لدى ذلك المقرر من التحمل والصبر على المخالفة، إلا بمصادرة حريات أولئك الأفراد، والتنكيل بهم، والجري خلفهم، والتضييق عليهم في ما يستحقونه، فإن استمروا فالعذاب الأليم يقع عليهم، وما موقف السحرة المؤمنين مع فرعون إلا صورة واضحة للقرار وحيثياته ومقوماته.. فقوله تعالى:(وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) فالمقرر الجائر يعتقد أن قراره كله هداية وصلاح ورشد وخير كله، زعموا !
أما القرار في أمة الإسلام فقد بنى له القرآن الكريم منهجاً متكاملاً وقاعدة صلبة للقرارات مهما صغر أو كبر في بناء الأمة، يسير على أثرها الصغير والكبير، منها: الأمر بالشورى، وأنه لا يمتلك حق القرار فرد من الأمة، وإنما هو لأهل الحل والعقد من ذوي الخبرة والكفاءة في الإسلام، وجعل لكل مجال أهله من المستشارين المؤتمنين على القرار، فقال: (المستشار مؤتمن).
وهكذا تكون صناعة القرار صناعة جليلة كاملة مبنية على ماضي الأمة المجيد، ومراعاة حاضرها، وما فيه من متغيرات نازلة، ورسم مستقبل أفرادها بتحصيل النتائج الصحيحة.
فتكون نتائج القرار معروفة مسبقاً لأهل القرار، وإن خفيت على بعض الأفراد، فلا تخفى عليهم كلهم، ومهما يكون في القرار من حسن ورشد، إلا أنه يظل يحمل في طياته ما لم يكن في الحسبان من خطأ وقصور الذي هو طبيعة القرار البشري.
أما الأوامر القرآنية فهي تقريرات إلزامية من الحكيم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالنا والعليم بمصالحنا، فأمره خير كله، ونهيه خير كله، وكما قال: (والشر ليس إليك).
فيظل المهتدي بأوامر الله تعالى، الذي يمتلك القرار على ضوء من هدى الله، وآراؤه قابلة للنقاش والمساءلة حتى يكتمل بناء القرار على نور من الله، وإذا أخطأ أو حاد عما يبتغيه من الحق والهدى، فيكفيه أنه بذل الوسع، واستشار الكفء، أما الذي يستغل منصبه ومكانته ووجاهته ليملي القرارات بعيدا عن المنهج الشرعي لبناء القرار، فكما قال الله تعالى فيه: (ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور)، وتظل قراراته مهما كانت خبط عشواء، وستظل النتائج المتراكمة على القرار الخاطئ في جبين الأمة المخدوعة بصلاح ذلك القائد صاحب القرار نقطة سوداء يتحمل تبعاتها في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (وما أمر فرعون برشيد. يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود. وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود).
وتظل أصوات الحق مهما كانت خافتة وبعيدة صوتاً لا بد منه قال تعالى: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد)، فيسعى المؤمن ليتحمل مسؤولية قرار الأمة جميعاً، وإعلان العذر أمام رب العالمين بأنه أدى ما عليه من حق النصح والهداية للإنسانية جمعاء، وخاصة مع أهمية بعض القرارات التي تسهم في تربية الأجيال وصياغة الأمم، وصناعة الحياة السعيدة من جديد.
أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن -جامعة الملك فيصل