تؤكد الدراسات التاريخية أنه لا تُوجد حضارة سعت إلى جعل فكرة الصراع مستمرة في مواجهة الحضارات الأخرى.. مثلما فعلت الحضارة الغربية التي ترى أنه يجب إبقاء الصراع قائماً مع كل الحضارات..
ولعل السبب في ذلك هو أن الحضارة الغربية تقوم على فكرة الصراع والصدام مع الحضارات الأخرى.. ولا يُوجد فرق بين حضارات الغرب القديمة أو الحديثة.. إذ إنها حضارات مُحَارِبة في الأساس.. جوهرها الصراع ونفي الآخرين.. فالتراث الإغريقي قائم على الصدام والكراهية.. والحضارة الإغريقية تُعد أصل الحضارات الأورُوبية منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة.. وتقوم هذه الحضارة على فكرة الصراع.. ومع أُفول حضارة الإغريق وظهور الحضارة الرومانية تطورت فكرة الصراع إلى الأسوأ.. إذ قامت على التوسع والسيطرة على الشعوب الأخرى.. وفي هذه الحضارة تم اختراع فكرة الاستعمار والإبادة وظهرت لديهم المعادلة الرومانية: (أجنبي = بربرياً).. أي تبرير الإبادة.. وقامت إمبراطوريتهم على استعباد الشعوب الأخرى وحكمها بالقوة والقهر، وهي أول من بدأ الحروب الاستباقية والتوسع على حساب الشعوب الأخرى.. واضطهد الرومان المسيحيين فترات متعاقبة.. وعندما اعتنق الرومان النصرانية حدث تحوُّل في المسيحية الغربية وتغيَّرت الديانة فيها التي كانت في أصلها داعية إلى السلام إلى ديانة تبرر العدوان وتمنح المبرر الأخلاقي للحروب الاستباقية.. وتم الدمج بين السلطة المهيمنة والديانة.. وذلك في القرن الخامس الميلادي، وأُعطِي الحق للإمبراطور في شن الحرب بدعوى تحقيق السلام.. وأُطلق مصطلح «الحرب العادلة».. ومنذ صدور هذا المصطلح بات الغرب يجد المشروعية الزائفة في شن الحرب وتبرير العدوان، لهذا اجتهد قادة ومنظرو الغرب عبر العصور لتقديم تصورات للحرب العادلة ووضع شروطٍ لها؛ لإعطاء أبعاد إنسانية ومشروعية تبرر البدء فيها.. إذ يقول «جون فيرجسون» في تلخيصه لعناصر نظرية الحرب العادلة كما ظهرت في المسيحية أن لها ثمانية عناصر هي:
1- أن الحرب العادلة هي الحرب المُعلنة من قبل السلطة الصحيحة.
2- يجب أن تكون القضية عادلة.
3- يجب أن يكون الهدف زيادة الخير وتقليص الشر.
4- يجب خوض الحرب بالوسائل المناسبة.
5- يجب أن تكون ضد المذنبين وليس الأبرياء.
6- يجب ألا يعاني الأبرياء من ويلات الحرب أكثر من اللازم.
7- يجب أن تكون الحرب هي الملجأ الأخير بعد فشل جميع الإجراءات الأخرى.
8- يجب أن تكون هناك فرصة معقولة لتحقيق النجاح, ويوضح فيرجسون أن تأييد المسيحية لرؤية الحرب العادلة، مستمدة من الفلسفة الإغريقية والقانون الروماني، على أن الحكومات الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحاضر لم تنظر إلى هذه الشروط قبل شن الحروب، فكل الحروب التي أشعلها الغربيون اعتبرت عادلة! وباسم العدالة تقاتلَ الغربيون أنفسهم.. وأراقوا دماء بعضهم البعض، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكل من بدأ الحرب سوَّغ لنفسه وصوَّر لشعبه أن حربه عادلة، ومن الحروب المقدسة كما في الحملات الصليبية إلى الحروب العادلة إلى الحروب الاستباقية، التي دفعت روح الصراع في الغرب لاختيار مجموعة من الدول النامية؛ لتكون هدفاً للتصارع معها، وتم إعلان الحرب على دول ضعيفة وسُميت بالدول المارقة أو محور الشر، وبدأت الولايات المتحدة في التحرش بالدول الإسلامية بشكل خاص، وقد بدأت أمريكا هذه الدول بالعدوان بحشد الدول الغربية المتحالفة معها لحصارها وتضييق الخناق عليها, وفي هذا الإطار هاجمت أمريكا ليبيا والسودان وأفغانستان والعراق وأمطرتها بالصواريخ خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ثم غزت الدولتين الأخيرتين واحتلتهما عسكرياً مع بداية الألفية الجديدة.. وتسبب روح الصدام والصراع في الفكر الغربي في غزو عسكري كامل لأفغانستان والعراق في عهد إدارة بوش بمشاركة تحالف من معظم دول الغرب, وتم استدعاء نظرية «الحرب العادلة» مرة أخرى؛ لإعطاء مشروعية للصراع ولتبرير ضرب الدول الإسلامية، بحجة منع تهديد الغرب, وأصبح مصطلح «الحرب العادلة» ودلالاته الدينية هو السائد على لسان قادة الغرب المعاصرين والنخبة بمعظم أطيافها؛ إذ لوحظ أن الرغبة في الصراع ليست مرتبطة فقط بالحكومات الغربية وصنَّاع القرار السياسي فيها، إنما هي موجودة لدى النخبة ورموز الفكر الغربي، فقد أعد معهد القيم بالولايات المتحدة الأمريكية بياناً في فبراير 2002م، وقَّع عليه ستون من كبار المفكرين والفلاسفة والشخصيات.. ومنهم فرانسيس فوكاياما وصموئيل هاننتجتون بعنوان: «على أي أساس نقاتل» أيدوا فيه حرب أمريكا ضد المسلمين، ووصفوها بأنها «الحرب العادلة».. وعبّر الموقعون عن الرؤية الصراعية التي تسيطر على العقل الغربي، وأعطوا للعدوان على مدن المسلمين الغطاء والمشروعية الأخلاقية.. وقال المثقفون الأمريكيون: (إننا نعلم بمقتضى العقل، ومن خلال التأمل الدقيق في الأخلاق أن في بعض الأحيان يكون أوّل وأهم ما يُقام به لمواجهة الشر هو إيقافه، وفي بعض الأوقات لا يكون الشروع في الحرب جائزاً فحسب.. بل واجباً أخلاقياً).. ولعلَّ المعتدلين من المفكرين الغربيين لا يختلفون كثيراً عن متشدديهم إذ يرون رؤية أخرى لا تختلف في نتيجتها النهائية عما يراه متشددوهم.. إذ يقولون: (الإسلام هو النظام الوحيد القادر على تقديم منظومة فكرية منافسة للفكر الغربي.. ولذلك نصل إلى أن الإسلام دين خطر ويجب مواجهته وتحجيمه).
وقد أصدر عدد من علماء ومفكري المملكة العربية السعودية يُقدرون بمائة وسبعة وخمسين عالماً ومفكراًً بياناً مضاداً في شهر أبريل 2002م بعنوان: «على أي أساس نتعايش.. رداً على بيان كبار مفكري وشخصيات غربية عنوانه كما تقدم: «على أي أساس نتقاتل».. طرحوا فيه فكرة التعايش السلمي بدلاً من إعلان الحرب على أن الحضارات الأخرى لا تخلو من روح الصراع والصدام.. لكنها ليست مرضية كما هو واضح في الحضارة الغربية, فالحضارات الأخرى يغلب على صراعها الطابع الإنساني والسلمي، ولم تكن الروح الاستئصالية موجودة بها بهذا الشكل المرضي الغربي؛ إذ تعايشت باقي الحضارات واستوعب بعضها بعضاً، فالحضارة الإسلامية على سبيل المثال تعاملت بعدل مع الشعوب والحضارات الأخرى ولم تلغها, وفي عهد الفتوحات الإسلامية لم تُسجل مذابح ومآسٍ مثل التي فعلها الغربيون مع شعوب العالم الآن، فالشعوب استقبلت الإسلام طواعية بدون إجبار، وتسامح المسلمون مع من ظلوا على دياناتهم، ولم يكرهوهم على الدخول في الإسلام، وكانت المعارك قليلة بالمقارنة بالمساحات الشاسعة التي فتحتها الجيوش الإسلامية، كما أن الخسائر البشرية للمعارك تكاد لا تُذكر بالمقارنة مع معارك الغرب الحالية.
لذا فلنزع فتيل الحروب التي أشعلتها روح الصدام والصراع في الحضارة الغربية بين الحضارات والثقافات المختلفة في العالم، فإنه يجب التواصل والتحاور مع أصحاب الحضارات المختلفة، والسعي لتوحيد الجهود لوقف انتشار روح العداء بين أصحاب الديانات والحضارات المختلفة، والعمل على تكريس مفهوم أن إيجابيات كل حضارة إنما هي مكملة للحضارة الأخرى, والتركيز على أن البعد الإنساني هو القاسم المشترك بين الحضارات, وأن هناك قواسم مشتركة بين الحضارات يجب الاتفاق عليها.. منها إشاعة العدل والإنصاف ومحاربة الظلم والطغيان وعدم الاعتداء على الشعوب ونهب خيراتها ومقدراتها باستخدام القوة العسكرية والوسائل الأخرى، وأن هناك إمكانية للتعايش بسلام بين كل الحضارات والحفاظ على القيم الإنسانية المشتركة، وعدم الاستبداد لوجهة نظر أحادية الجانب نهجها مقولة: من لم يكن معي فهو ضدي، ولقد كان لمبادرة ملك الإنسانية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية السبق والفضل في المطالبة والبدء بهذا الحوار في عصرنا الحاضر.. ونالت مبادرته التأييد الدولي من جميع رؤساء ومفكري العالم.. حيث انطلقت المبادرة السامية في الملتقى الأول المنعقد بمكة المكرمة في شهر يونيو 2008م.. وفيه تمَّ التأصيل للحوار بين المسلمين وغير المسلمين.. وتمَّ إرساء قواعد الحوار ومجالاته واختيار شركاء الحوار.. وكان هذا الملتقى برعايته - حفظه الله-.. ثم أعقب ذلك انعقاد مؤتمر مدريد في شهر يوليو 2008م.. والذي تمَّ فيه تقييم التجارب السابقة لمسارات الحوار بين الأديان والحضارات، ثم تلا مؤتمر مدريد وبدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وبمشاركته في مقر الأمم المتحدة بنيويورك.. وبرعاية الجمعية العامة للأمم المتحدة اجتماع الحوار بين أبناء الأديان والثقافات والحضارات المعتبرة.. بحضور حشد كبير من أصحاب الجلالة والسمو والفخامة ورؤساء الحكومات في عدد من دول العالم ورؤساء الهيئات الدولية.. وذلك في الفترة من 12-14 نوفمبر 2008م.. وفي هذا الاجتماع تمَّت مناقشة عدد من الموضوعات المتعلقة بالحوار بين أتباع الأديان والحضارات, وألقى الملك عبدالله كلمة تاريخية أكد فيها على مبادئ العدالة والتسامح.. ثم ألقى معالي الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كلمة رحب فيها بالحضور.. معرباً عن شكره وتقديره لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود على دعوته لهذا الاجتماع, وقال: «جلالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين السلام عليكم أصحاب الجلالة وزعماء الدول ومعالي الوزراء شكراً جميعاً على قدومكم.. فوجودكم في هذا الاجتماع يشير إلى أهمية الحوار في العالم اليوم.. فالمملكة العربية السعودية أخذت على عاتقها هذه المبادرة لعقد هذا المؤتمر.. فأنا أشكر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لدوره الحاسم والحيوي لتمكين عقد هذا الاجتماع».. «إننا نعيش في قرية عالمية والعولمة قد تكون مجالاً للقوة ولكن الاقتصاديات والحدود بينها اختفت.. وأصبح الإعلام يقرب بين مجتمعاتنا، وبالحقيقة نحن نرى أن هناك ظاهرة تقلقنا كثيراً فهناك متطرفون بزيادة وأصبح هناك أيضاً معاداة للإسلام وهي نوع من التمييز العنصري والتي تعتمد: بناءً على الأديان وعدم تحمُّل الآخر، في بعض الأحيان قد ننسى جميع الدروس التي يجب أن نتعلمها من التاريخ ومن التحديات التي يجب أن تواجهنا اليوم هي أن نتأكد من التنوع الحضاري، يجب أن يؤمّن لنا الأمان والسلام ويعني أنه يجب أن يكون توازن بين الدول، لكن تعلمنا بأن السلام المستمر يجب أن يكون هناك معادلة متوازنة وأن يكون السلام مستديماً يجب أن نحترم بعضنا البعض ونتفاهم بين بعضنا البعض ونتقبل الآخرين».. إن التفاعل بين مختلف الأديان والحضارات يجب أن يكون بشكل متزامن أكثر، ويجب أن يكون هناك حوار مثل حوار مدريد الذي عقد بدعوة من الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي جمعنا من جميع الأديان ومن جميع الأعراق والألوان والمشاركة في هذه المؤتمرات بغض النظر عن العرق والدين والحضارة والثقافة وقد وعدوا في ذلك المؤتمر بأن نعمل على التسريع وتحريك الحوار ونحن في الأمم المتحدة نرحب بمؤتمر مدريد على أنه مساهمة كبيرة من خلال جهودنا لنشجع احترامنا وتبادل الاحترام بين الجميع وتقبل الآخرين).
كما ألقى الرئيس الأمريكي (جورج بوش) كلمة قال فيها: أشكر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود لقيادته ولإقناعه لنا جميعاً للاجتماع والتحدث حول الإيمان، وأُقدر المشاركين الذين يدركون القوة الحقيقية للإيمان).. كما ألقت رئيسة جمهورية الفلبين كلمة أعربت فيها عن تأييد بلادها لمبادرة خادم الحرمين الشريفين في الدعوة للحوار بين أتباع الأديان والثقافات والحضارات المعتبرة.. وقدمت خلال كلمتها مشروعاً لتشجيع الحوار والتفاهم والتعاون بين الأديان والثقافات من أجل السلام أعدته بلادها بالاشتراك مع جمهورية باكستان الإسلامية.. وشارك في تبنيه ستون دولة، لافتة إلى أن من أبرز نقاط المشروع التأكيد على أن التفاهم المشترك والتفاعل والحوار بين الأديان والمعتقدات يُشكِّل جزءاً مهماً من تحالف الحضارات وثقافة السلام وتشجيع تعزيز الحوار بين وسائط كل الثقافات والحضارات.. وتفاعلاً مع المبادرة عقد الملتقى الثالث لمبادرة خادم الحرمين الشريفين لحوار الحضارات والأديان، في جينيف يومي 30 سبتمبر وغرة أكتوبر لعام 2009م.. وتم التركيز في هذا المؤتمر على مفهوم القيم الإنسانية المشتركة في الديانات والحضارات المختلفة.. وأثرها على السلم في العالم.
وفي الختام فإن العالم بحاجة ماسة وعاجلة إلى مواصلة الجهود في سبيل تعزيز الحوار بين الحضارات وإيقاف الهجمة الشرسة للحضارة الغربية على حضارات العالم أجمع.. والتي استخدمت منها الآلة العسكرية الغربية لفرض الرؤية الغربية بالقوة.. كما صاحبتها الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية.. ولا أدل على ذلك من أن المراقبين في جميع أنحاء العالم كانوا يؤكدون ومتوقعون حصول خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية على جائزة نوبل للسلام.. نظراً لجهوده الكبيرة في إحلال السلام في العالم.. وجهوده الكبيرة في محاربة الإرهاب.. وجهوده في سبيل تعزيز الحوار بين الحضارات منذ سنوات.. إلا أن المفاجأة حصول الرئيس الأمريكي أوباما عليها في الوقت الذي تدك فيه طائرات التحالف الغربي بدون طيار منازل الأطفال والشيوخ والنساء في أفغانستان وباكستان وتحوِّلهم إلى أشلاء.
إن مسؤولية إحياء الحوار بين الحضارات واستمراره حسب مبادرة الملك عبد الله موكول لعقلاء العالم ودوله ولهيئة الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية ولرابطة العالم الإسلامي التي بدأت في عصرنا الحاضر بتبني إعداد وإدارة الحوار وتوجيهه وإيصاله إلى أروقة الأمم المتحدة.. وإن معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي المؤهل لإدارة الحوار وإنجاحه حسبنا في ذلك نجاحاته في كل عمل كبير أُوكل إليه، ومنها إدارته السابقة والرائدة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
dr-a-shagha@hotmail.com