Al Jazirah NewsPaper Friday  26/03/2010 G Issue 13693
الجمعة 10 ربيع الثاني 1431   العدد  13693
 

من أحاديث المجالس
د. محمد بن سعد الشويعر

 

يقال في المثل تحدّث غير فنّه، أتى بالعجائب، فقد قرأت في إحدى الصحف الصادرة يوم 15-11-1430هـ أن نقاشاً في أحد الاجتماعات في موضوعات شتى، كالمعتاد الذي يبرز عنه توارد أفكار، ومداخلات وليدة ساعتها، وآراء غير مدروسة.

ولما كان المثل العربي يقول: الكلمة إذا خرجت منك ملكتك، أما إذا ملكت لسانك، ومنعته عن الكلام، فإنك تملكها وتسلم، كما قال ابن القيم: قد جعل الله على الفم قفلين، تحجزان اللسان: الشفتين والأسنان، حتى لا يخرج إلا كلمة موزونة، وجعل الأذن دون قفل ليكون السماع أكثر من النطق، والكلام في حفظ اللسان والصمت، كثير وواسع عند الحكماء والعقلاء.

من ذلك قولهم: الصمت حكمة وقليل فاعله، وكم كلمة قالت لصاحبها دعني، وقولهم: كَلْم اللسان أنكى من كَلْم السّنان، وغير ذلك، مع أن نقل الكلام، وإطلاق اللسان به، سيئ ويزري بالناقل، لما يترتب عليه، من إساءة وسوء ظن، وما ذلك إلا من ينقل الكلام، إذا لم يكن بأمانة، قد يتخلله زيادات من الناقل، سواء كان بحسن المقصد، أو سوئه أو من قلة الفهم، فيأتي بالشيء على غير ما أراد القائل ففي مثل الحالات، يجب ألا يذكر المنقول باسم الشخص، أياً كان، وإنّما بالبناءِ للمجهول كما هو أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ما بال أقوام يقولون كذا، وما بال أقوام يفعلون كذا.

وفي صحبتي للشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله الطويلة، تصله رسائل من بعض الشباب المتحمسين، أو بالهاتف أو مشافهة، ومن حرصه على أداء الأمانة بالتبليغ، عما قاله النّاصح أو كتبه، فإنَّه يكتب للجهة ذات العلاقة، سالكاً منهجاً مُرضياً، لا يعطي فيه جزماً بالأمر، فيما عُرض عليه، بطلب من المتحدث أو الكاتب: إذ يقول: إنْ صح ما ذكره النّاصح أو الكاتب.

ومن هنا أجْبتُ المداخلة، على ما جاء في تلك الجريدة حول اليهود، وما نُسب لأحد المشايخ، تحت العناوين البارزة في تلك الكلمة مثل:

1 - ليس هناك عربي يستحق أن نقرأ له.

2 - كتاباتنا عالة على الغرب.

3 - لولا معاداة البيئة النجدية للفلسفة لما بقينا متخلفين.

وغير هذا مما نُسب لذلك القائل في تلك الندوة، التي كان منطلقها هذا العنوان: تجارب القراء بالمركز الثقافي، وغير هذا مما نُسب إليه، ولغيره في تلك الندوة.

ولما كنت أعرف عن هذا الشيخ، في كتاباته الرصينة: آراء فكرية إسلامية جيدة، نابعة من الفكر الإسلامي بالدعوة لتحريك العقل، وتحريك ذوي الألباب، وآيات لقوم يعقلون ودعوة إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض، وفق ما جاءت به شريعتنا، حيث يتكرر في القرآن الكريم: مخاطبة العقل والتوجيه إلى التفكير عشرات المرات.

فلا يغيب عنا أن مدارك الناس، لدى بعضهم: عن عقيدة أو تقليد، أو سوء فهم، أخذت منحى معيّناً، لا يصح إطلاقه على العموم، وإذا كان عرض لأي شخص، فكر يناهض ما تدعو إليه المصادر الشرعيّة بتقييد الفكر، وحجزه عن الانفلات، فإنَّ الواجب في هذا الحوار، السعي في تعديل المسار، برفق وهدوء صوت، في محاولة للإقناع بأمور محسوسة، وإذا لم تجد فبالصبر مع تحيّن ساعات يهدأ فيها الجأش ودون حماسة، والمثل الإنجليزي يقول: بالصبر يحمل الماء بالشّبكة، وتحفر البئر بالإبرة.

إذْ لا يصح الحكم بإطلاق العموم، لوجهة نظر خاصة، أو نظرة عاجلة في رأي لم يُعزَ لمصدر سليم، لأن العموميات التي تطلق على الأمة، تدعو للتثبيط، وآتي بمثال جاء في تلك الندوة، نُسب لأحدهم، فهو يقول: إن إنتاج عبدالوهاب المسيري، وإدوارد سعيد، في كتاباتهما عن اليهود، وتحليلهما، ما جاء في كتبهم، كانت مسيئة أكثر من إفادتها.

وعلى هذا المفهوم - إن صح- فإن القرآن الكريم، الذي عرّى أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، في الكذب على الله، والتّعديل والتّبديل في شرع الذي شرع، وقولهم على الله وعلى أنبيائه، وعيسى وأمّه، مما بيّنه آيات كثيرة في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة، وتحريف الكلم عن مواضعه، وغير هذا مما يدركه، كل مسلم متشبّع بالفكر الإسلامي، من مصادره، وفي المخزون العقلي والذهني والفكري عنده، أقول: إنه لا يُشكك في المصدر الشرعي، حول تعرية أهل الكتاب وكذبهم على الله إلا شخص في حاجة إلى تعديل مفهومه بالرفق والصبر، والنقاش الهادئ بالأمثلة، حتى يقترب من الصواب في تعديل المسار عنده بالنَّقاش الهادئ.

وفي هذا نقرّب إلى الأذهان، دلالة مقولة علي رضي الله عنه: خاطبوا الناس بما يعرفون، حتى لا يكذّب الله ورسوله، لأنَّ العنف يفتح باب التعصب، ونهانا الله عن ذلك بقوله الكريم: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (سورة الأنعام 108).

بدليل أن حملات الغرب الجديدة، على الإسلام، صاحبها كتاب وزع بنطاق واسع في الشبكة العنكبوتية ونشر باسم الفرقان الحق، باللغتين العربية والإنجليزية، يريدونه بديلاً عن القرآن الكريم، قد حذفوا منه كل ما يتعلّق بأهل الكتاب ومساوئهم.

فمع هذا ومع حملاتهم الشرسة، وأموالهم المدفوعة، منذ قال الله عنهم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (سورة البقرة 120).

نرى آراء وكتابات، وكتباً منهم تندرج، تحت دلالة هذه الآية الكريمة، ومن ذلك ما يحصل في مؤتمراتهم، وما يخططون ضد الإسلام، يقول سبحانه: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (سورة الأنفال 30).

ففي عام 1909م في مؤتمرهم بالقدس، ناقشوا وما أكثر ما يصدر عنهم، في اجتماعاتهم، كيف نحارب الإسلام، فكان من أبرز ما قالوه: لن يهدأ لنا بال، حتى نمزق القرآن، من قلوب المسلمين، ونباعدهم عنه، ونهدم الكعبة حتى لا يحجوا، وحملاتهم قديماً وحديثاً تسير في هذا الاتجاه، سواء جاءت نصاً، أو حادوا قليلاً، كما برز في النرويج، بالرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سويسرا بمحاربة المآذن وغير ذلك كثير مما ينفسون به عن مكنون صدورهم ضد الإسلام.

أما عبدالوهاب المسيري، وإدوارد سعيد، فقد بيّنا تفصيل ما أجمله كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن أهل الكتاب.

ومثل ذلك ما نسب لأحدهم، من أن الفقه الإسلامي، يقرّ الحاكم المغتصب على حكمه، ويوجب له البيعة على الشعب، فليته أتى بدلائل من الفقه الإسلامي على هذه القضية، إذ الفقه الإسلامي بريء من هذه الفرية، ولتُنظر شروط الحاكم على المذاهب الأربعة، ومسؤوليته نحو الرعية.

وليت القائل قرن ذلك بما حصل بعد الخلافة الراشدة، وبعد فتنة التحكيم، وما قاله الصحابة في لزوم الجماعة، استناداً إلى أحاديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طبقه الصحابة.

ولعلي أحيل من ناقش في هذه الندوة، إلى مفكري الغرب، المنصفين للإسلام، ومكانته على الحضارة العالمية، واكتفى في الإشارة بمصدر واحد، قد تُرجم منه للغة العربية، (42) جزءاً على حد علمي وما أملك منه في مكتبتي، وهو كتاب: قصة الحضارة، تأليف: (ول ديورانت)، فقد أنصف المسلمين، وهم الأمة المغلوبة ذلك الوقت، وانتقد القشتاليين وهم المنتصرون بأخذ الأندلس من أيدي المسلمين، وذلك بإحراقهم تلالاً من الكتب، التي تمثل تراث العرب والمسلمين بعد سقوط الأندلس، وبروز محاكم التفتيش، على يد (لبوبلد) وأمه (إيزابيلا).

ومع هذا التعسف، فقد اشتدوا في أمور العقيدة، بإجبار المسلمين ثم اليهود على التنصر أو القتل، بينما المسلمون قبل مجيء القشتاليين، يعاملون اليهود والنصارى، وفق دلالة الآية الكريمة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون 6).

فمع إشادة ديورانت، بسماحة الإسلام، ودور حضارته على أوروبا كلها، فإنّه نقل آراء مفكري الغرب، الذين قالوا: إن أوروبا تدين لعلماء الإسلام بأفكارهم وآرائهم وعلومهم، والحق ما شهد به الأعداء.

بل أبان باعتراف اليهود أنفسهم، بأن الإسلام حماهم، وبلاد المسلمين احتضنتهم، وعملوا في الدولة العباسية، ثم في الدولة العثمانية بكل أمان: في الترجمة والطب والفلسفة.. وخصوصاً بعدما اتسع نطاق الفلسفة اليونانية، وترجمتها، في دار الحكمة التي أسسها الخليفة العباسي المأمون.

إلا أن هذه الفلسفة قد أفسدت قاعدة في الإسلام، حيث جاءت بآراء وثنيّة حاربها الإسلام، بمصدريه، فاتسعتْ الآراء والفتن، وكان من أوائل من دخل هذا الميدان، وعرف ضررها وانتقدها، الإمام الغزالي والفارابي، وأبو موسى الأشعري، وقد نتج منها تشعب الفرق والقول بخلق القرآن، تلك الفتنة الكبيرة، والاعتزال الذي دخله الإمام الغزالي، وخرج منه رحمه الله كما روي عنه القول:

نهاية إقدام العقول عقال

وغاية سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا بين قيل وقالوا

وقد تبرأ من طريقته الأولى، وعاد لمنهج أهل السنة والجماعة، وألّف في هذا كتابين: تهافت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال.

وقد دخل مع باب الفلسفة اليونانية كثير من المسلمين، فغوى بعضهم، ونتج منها فتن كالاعتزال والقول بخلق القرآن، وتاب منها آخرون، ونقدها الطحاوي متناً وغيره شرحاً وهكذا كل من مال ولو قليلا مع نقص العقيدة يخشى عليه من الهفوات والمزالق.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد