قلت في المقالة السابقة أن الطفل المتوثب فوق سنام الناقة في ليل الصحراء قد شاهد ضوءاً يتلالأ في أقصى الظلماء، فالتمع الضوء وتراقص مثل وميض الماس على جيد فتاة بيضاء، قال الطفل البدوي: أيا للضوء الراقص في الجهُمة يدنو يدنو وتساءل: (أهذي عرعر تركض نحوك لتنقذ قلبك من هذا الخوف، تنقذ روحك من هذي الإبل العجفاء) (11)
(كانت عرعر
تدنو أكثر
يقترب الضوء المبُهر
تعدو الإبل الظمأى
نحو مناهلها الأولى
يجتاحك فرح أخضر
هاهي عرعر
هاهي عرعر)
تفتح عباءتك الوبرية لتضم الضوء وتشرف قبل بزوغ الفجر على آلات لا تعرفها وبعض مبان من طين تتذكر أن رجلاً أكبر منك قليلاً قال: هبطنا عرعر قبل عشرة أعوام أو أكثر أي في أواخر أو أوسط الأربعينات الميلادية، وكان الظمأ قد بلغ بالإبل إلى أقصاه وكانت تحن عطشاً. ثم مرّ بنا (طرقي) راجل قال: أبشركم بالماء، وأشار إلى (تلعه محيطه) بالذات فتوجهنا إليها - ولكن أبي قال: إن الطرقي يكذب إذ لا ماء ب(محيطه) فعلينا ب(الحسيان) - أي حسيان أبا الدفوف - ولكن رجلاً آخر توجه نحو (محيطه) فوجد رجالاً حُمر الأوجه (خواجات) قد حفروا فيها وملأوا بركة بالماء فوردناها. ثم انتقل الرجال الحُمر إلى موقع (الشبك) الآن وأقاموا فيه ولعله يعني بذلك مهندسي خط التابلاين.
أقول: إن الطفل الظامئ إذ ذاك وجد في عرعر الماء ووجد الأضواء ثم لم يعد الطفل يتذكر كيف جاءت سنوات القحط المرعب، وأبادت كل نياق البدو الرحل في الصحراء.
غرّب
شرّق
أيمن
أشمل ثم غنى:
(إن شرقت أو غربت فينا الأوطان
مرجوعنا ل(هالأرض) مهما ارتحلنا
ياما أقبلت ثم أدبرت عنها الأضعان
وترجع لها كان الليالي بخلنا
هذي عوايدها على مرّ الأزمان
اليا انقطع حبل الرجاء هي تصلنا).
يتجه الطفل الحائر إلى (حزم الجلاميد) الذي يُعتبر جزءاً من هضبة الحجرة إذ لا فيه آنذاك سوى جلاميد الصخر الذي يموت الطير فيها من وطأة الشمس وشح الماء، وهو إذ يتذكر ذاك لا يرد في خاطرته سوى مفردات عدة مثل: (خط الأنابيب) التابلاين، الشركة، محمد السديري وأشعاره الخالدة، ثم ابن مساعد ونعني بذلك صاحب السمو الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد نجل البطل التاريخي العظيم عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي، الذي كان اليمين التي لا تُشل لموحد هذا الكيان العظيم سميه عبدالعزيز بن عبدالرحمن - طيب الله ثراهما معاً - واللذان سارا معاً لتوحيد هذه البلاد الغالية، وتبعهما أبناؤهم البررة في بناء هذه النهضة الحديثة المباركة فوق رمال الصحراء. والدليل على ذلك حينما يعود هذا الطفل البدوي إلى ذاكرته العتيقة ويقارن بين الأمس واليوم لا يسعه الفرح والغبطة الهائلة حينما يرى عرعر وقد أضحت اليوم بفضل من الله ثم بفضل رعاية مؤسسها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد - حفظه الله - الذي رعا نهضتها المباركة خطوة خطوة منذ أن كانت عاصمة الشمال بمثابة قرية صغيرة وإلى أن أصبحت اليوم مدينة رائعة، كما هم أهلها الرائعون بصفاء قلوبهم وروعة تواشجهم الاجتماعي والوطني الوثيق، ثم تتضاعف البهجة أكثر وأكثر حينما أخذت الأنباء تتناقل أخبار فوسفات حزم الجلاميد واكتشاف مخزون الغاز فيه، والذي يعتبر هو الثروة والطاقة القادمة بعد البترول، كما يقول الخبراء والذي يكمن تحت تلك الجلاميد.
لا شك أن في ذلك حكمة ورحمة من رب العالمين الذي يهب الخير والمستقبل لمنطقة كان يشّح فيها حتى الماء. ويبقى القول أخيراً.. تحية للشمال الجميل حجراً حجراً ونفراً نفراً، وأهلاً بنموها القادم البهيج.