روى الأستاذ عبدالله بن إدريس في سيرته ذاكراً بدايته الأولى حيث جرى اختياره لسلك القضاء، وزاد في الحديث عن كيفية تخلصه من هذا التكليف
الذي لم يكن يريده لنفسه، كان هذا الأمر في زمن مبكر كانت فيه مهنة القضاء ذات قيمة عزيزة ونادرة، ولكنه لم يكن يرى نفسه في موقع يتحتم عليه أن يصدر فيه أحكاماً على الناس، ونحن لو تتبعنا سيرته الثقافية بعد ذلك لوجدناها تسير على هذا المعنى؛ إذ ظل عزوفاً عن الظهور بمظهر الرجل صاحب القول المطلق والحكم القاطع، كيف وهو الرجل الذي يصدر ذهنه عن توازن فريد يقف فيه بين الصفوف المتقاطعة وكأنما هو همزة وصل لا همزة قطع، وجاء كتابه المبكر والرائد (شعراء نجد المعاصرون) في مقابلة تاريخية تفرض نفسها مع كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) لعبدالعزيز الجرجاني؛ فالجرجاني كان قاضياً وتصدى للتأليف، ولذا نظر للأطراف في معادلته التأليفية على أنهم خصوم، بينما جاء كتاب ابن إدريس كتاباً في تاريخ الأدب وفي سجل الثقافة وهو لا يقضي بين خصوم ولكنه يسجل ذاكرة المرحلة وثقافة البيئة، وكيف يقضي وهو الذي تأبت نفسه على القضاء، وكذا كانت حاله حينما ترأس النادي الأدبي في الرياض، في فترة كانت الأطراف الثقافية على أشد التخاصم بين محافظة تعم طرفاً عريضاً من الناس وحداثة كانت حينها حادة ومتحدية، وكان للنادي أن يقع فريسة لأحد الاتجاهين، وكان على رئيسه بما له من مرجعية ثقافية ومؤسساتية وانتسابه لأهم الأطر المحافظة في البلد، كان عليه أن ينحاز ويقف في صف الضد أو في الأقل في صف الحكم الصارم القاطع، ولكنه مال لطبعه الأصلي وهو التوازن بين الأطراف كلها وعادت له مرة أخرى روح الأديب المؤرخ الذي يرصد ويتصرف بموضوعية، ومثل ذلك ما جرى في حواره التلفزيوني الذي روى فيه قصة مسيرته، وفيها أتى على قضايا حساسة جداً ومع مسؤولين كبار لهم مقامات دقيقة، وتكلم كيف عرضوا عليه مناصب وكيف أرادوا منه مواقف، وكانت طلبات مغرية ومن وجهاء ذوي شأن، ولكنه كان لا يرغب في تحقيق تلك الطلبات، ولقد روى القصص وهي في أصلها مثيرة وحساسة ويمكن أن تخلق ضجيجاً أو تدفع بصاحبها إلى توتر لفظي وإلى مصادمة أكيدة، ولكنه كان يروي الأمور بهدوء لغوي عجيب وكأنما يشرب كأس ماء، وكل من سمع حديثه أعجبه من الرجل أمانة الموقف وشجاعة التصرف، مع هدوء النفس وهدوء اللفظ وكأنما هو سكون وسلام، وهذا ما يجعل القيمة التوازنية عالية المقتضى عنده، وهو الرجل الرائد الذي شق طريقاً لولاه لظل الطريق يباباً مغلقاً، وذلك في تصديه لمهمة الكتابة الأدبية في تاريخ الأدب عندنا، وفي طرح رؤى نقدية مبكرة في الأدب السعودي، وكم كان كتابه (شعراء نجد المعاصرون) مثيراً ومؤثراً علينا نحن جيل الطلاب في المعهد العلمي وقتها، ولقد كانت مفاجآتنا به كبيرة ومفرحة بشكل استثنائي، نحن الذين كنا ندب وقتها على صفحات القراءة وكانت قراءاتنا تراثية في العقد الفريد والأغاني ونفح الطيب والمعلقات والنقائض، وإن جئنا للحديث فهي عن المهجر وأبوللو وطه حسين والعقاد، وفي هذا الجو جاءنا كتاب ابن إدريس وهو عن شعراء نعرف بعضهم رأي العين ونقرأ لبعضهم وعن بعضهم في الجرائد، وهذا ابن إدريس يحولهم من منظر البصر ومسمع الأذن إلى كتاب مجموع ومرصود فيه نصوص وفيه تاريخ وفيه نقد، وحدث أن جاءني الكتاب وعليه خاتم المعهد العلمي بعنيزة وكلمة تقدير كهدية تفوق دراسي لي، وكان من ديدن المعهد تقديم الهدايا كتباً للمتفوقين ولرواد النشاط الثقافي وحصلت على هدايا منها ديوان المتنبي بشرح العكبري وألوان لطه حسين وشعراء نجد المعاصرون، ولقد ضاعت الكتب هذه كلها مني ولكل واحد قصة حية تسببت بضياعه، أما ما نحن بصدده فهو شعراء نجد الذي تحايل علي الصديق عبدالرحمن السليمان العثيمين (الأستاذ الدكتور حالياً والعالم المحقق البارز)، تحايل علي واستعاره مني ومع الزمن تحولت العارية إلى خطف أبدي، وما زال الكتاب عنده وعليه ختم المعهد واسمي ولم يرده على رغم كل المحاولات والتحايلات ووساطات الأصدقاء ومحاماتهم الصارمة، وكان هذا قبل خمس وأربعين سنة، وظللت محروماً من كتابي وهديتي بذاكرتها الثمينة، ومرت سنون ليس لدي نسخة من الكتاب وإذا احتجته لأمر بحثي رجعت إلى مكتبة الجامعة، وكنت - مثل غيري - أصر في مطالبة الأستاذ ابن إدريس بتكرار طبع الكتاب، ولكل منا غرض من هذا الطلب، وكان غرضي منه شفاء لوعتي من فعلة صديقي أبي سليمان، وجاءت الطبعة الثانية من الكتاب وجاءني منه نسخة، ولكن نسختي الأصلية ما زالت عند خاطفها، ولو كان الشيخ عبدالله بن إدريس قاضياً لنفعني في هذه المسألة ولترافعت عنده وعندي حجة دامغة وهي ختم المعهد واسمي على الكتاب، ولكن الأستاذ أبى القضاء واتخذ التوازن قاعدة له، ومنها رسم صورة حية للأديب المتأدب خلقاً ومسلكاً، ومن توازنه هذا صنع هرمه الخاص في التربية وفي العمل وفي الريادة وفي إدارة الأزمات، ولا شك أن رئاسة الأندية في فترة الثمانينيات كانت نوعاً قاسياً من أنواع إدارة الأزمات، وأنا أعرف مدى اختلافه معي ومع كثير من أفكاري وأعرف أيضاً كيف كان راقياً في تعبيره عن تلك الاختلافات وأعرف أنه فتح لي أبواب النادي الأدبي ودعاني دعوات كثيرة ومتكررة لبيت بعضها، وكنت أعرف كم هو فرح لقبولي إذا قبلت ولم يكن رأيه المخالف سبباً قط لإغلاق الباب ولم أكن لألومه لو فعل، ولكن خلقه الرفيع وروحه العلمية الصادقة وحسه الأدبي المبكر أصلاً ثم المستمر أبداً هو الذي كان يقود تصرفاته ويقود مواقفه، وهي مواقف التوازن والصدق مع النفس وحفظ حقوق الثقافة والعمل.
هذا أديب التوازنات وهو رائد لم يكذب أهله.