أكتب ما تقرؤون، والأمة العربية في جَوٍّ مشحون بالتوتر والترقب وكل حامل هَمٍّ مستبطن للخوف والعناء، وقديماً قيل: (وَيْل للشجي من الخلي). وما كنت أدري أي المفكرين الذي سبقني
إلى مثل هذا العنوان، غير أني أذكر جيداً أن المفكر الملحد (عبد الله القصيمي) له كتاب مثير تحت عنوان: (كبرياء التاريخ في مأزق) وهو من الكتب الضخام القلقة في عباراتها ومصائر أفكارها.
ولأن الأمة العربية لا تقيم على مأزق واحد فقد كانت لكل مرحلة مآزقها، ولقد تناولت في التاسع والعشرين من (أبريل) عام 2003م في مقال تحت عنوان: (الكبرياء العربية والجبروت الأمريكي في مأزق) جانباً من مآزق أفلت أو رقَّقَها ما هو أدهى منها وأمر.
والمأزقية هم دفين شغل الساسة والمفكرين، وجُندت له المؤتمرات وأنجزت من أجله الكتب الطوال، وقامت المظاهرات وابتليت الشعوب بالثورات، ولكن المآزق هي المآزق، ولقد جاء كتاب (المأزق العربي) الذي أعده (منتدى الفكر العربي) أشبه ب(الأطلس) السياسي لمختلف المواقف النخبوية كما وصفه محرر الكتاب (لطفي الخولي) وكانت المآزق آنذاك متمثلة بالحروب الخليجية وخروج مصر من الصف العربي والدخول في نفق (الكامب ديفيد) المظلم والخلاف المغربي حول (الصحراء الكبرى) وعدم تمكين الفلسطينيين من إدارة قضيتهم بمعزل عن النزاعات العربية العربية وإجهاض النضال الفلسطيني بالسلام الزائف، واستفحال الطائفية في لبنان، وتلك أزمات قائمة ما أقام (عسيب) ولكنها غُمرت بأزمات جديدة لم تكن على شاكلتها، وحين لا يكون حل حاسم تكتفي الأطراف بالتعليق أو التأجيل إلى حين امتلاء المشهد بما هو أعتى.
ولأن لكل زمان ملابساته ومكوناته وقضاياه فإن الراهن العربي قد انطوى على مصائبه الجسام التي صنعها بيديه أو صُنعت له ثم لم يحسن الصنع ولم يتوق المصنوع، وظل يعاني من مصائب جديدة نسلت مما سلف، وستظل مآزقه تلد من المصائب مثلما تتوالد الحشرات في المواقع الموبوءة، وإذ رمت جروح الأمة على مفاسد لا قبل لها باحتمالها، ورقق التليد منها الطارف فإن من الصعب الخلوص من المآزق بأسرع الأوقات وأقل التكاليف، والأمة العربية في ظل تلك الترديات المُعْمِية تمارس كبرياءها التاريخية غير عابئة بحاضرها المأزوم، وهي إذ تكون على مشارف قمة عربية فإن عليها أن تعيد النظر فيما تأتي وما تذر وبخاصة أسلوب معالجتها للنوازل الإقليمية والعالمية وعلاقاتها العربية العربية والعربية الغربية، وأن تطرح المغامرات والمجازفات والعنتريات والمثاليات والتهافت على الأضواء الإعلامية الزائفة والمزايدات الرخيصة، فأوضاعها لم تعد قابلة للتبرير أو التعذير، وهي إذ تظل مرتهنة للسياسات القطرية ولأوضاع وإمكانيات متباينة فإنه من الممكن الإيمان بمبدأ التواصل في ظل الاختلاف والتفاوت والالتزام الشرفي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية أو استغلال الضعف لفرض رؤية غير ملائمة أو لاحتواء يعكر صفو السيادة الإقليمية ولا سيما أن الشارع العربي لم يعد من الغباء بحيث لا يميز بين كافة الممارسات.
واللقاءات العربية ثنائية كانت أو رباعية كلية أو جزئية لابد أن تضع المؤتمرين أمام أنفسهم بكل ما يستبطنون اختياراً أو إكراهاً وليس شرطاً أن تنهي تلك اللقاءات اختلاف وجهات النظر ولا أن تصفي الخلافات دفعة واحدة، ومن أرادها عصا سحرية فقد أفقدها أدنى حد من الإيجابية وأضعف الإنجاز إيقاف التدهور في العلاقات والأوضاع وصد اختراق الأجواء من الطامعين والمتربصين والعجز عن بعض هذا مؤشر استمرار للمأزقية، والأمة العربية جسد واحد لأنها تلتقي تاريخاً وثقافة وحضارة ولساناً وعقيدة، وفوق ذلك كله فإن المساس بسيادة دولة مساس بكل السيادات، ومن استخف بشيء من المصالح المصيرية المشتركة اضطر في يوم من الأيام إلى القول: (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، وأي اختراق من أي طرف سوف يؤدي إلى تصدع التكتل المطلوب، والقيم المعنوية نسق للقيم الحسية، ومن ثم لابد من بث الثقة واحترام المصالح المشتركة وتبادل المنافع ووضع سقف للاختلاف لا يجوز تجاوزه تحت أي ظرف، والاختراقات التي يمارسها ذوو المطامع الطائفية أو الإقليمية لا يمكن أن تحقق أدنى مصلحة للأمة مجتمعة أو متفرقة، ولكيلا تستمر المآزق في التصعيد فإن على الأمة العربية أن تعيد النظر في علاقاتها مع بعضها ومع الآخر قريباً كان أم بعيداً بحيث لا تكون العلاقات الثنائية على حساب المصلحة العربية.
ولأن لكل زمان قضاياه فقد جدَّت على الأمة العربية أحداث جسام لم تكن معروفة من قبل بل لم تكن متوقعة بهذا الحجم وبتلك البشاعة وتلك الأحداث المتداعية زجت الكبرياء العربية في مآزقها السحيقة.
والمؤسف أن الأمة العربية لم تعطها ما يناسبها من المواجهة ظناً منها أنها سحابة صيف عما قليل تنقشع، وعسى أن تكون في مؤتمرها القادم قادرة على قراءة الأحداث بعيون ثاقبة وعقول واعية تزن الأمور وتراها بحجمها الطبيعي، وسوف أشير إلى حدث من تلك الأحداث وهو في نظري من أخطر المآزق ذلكم هو الحضور (الإيراني) في المنطقة وتدخله السافر في كافة القضايا ونفاذه من كافة المواقع ليكون وصياً ومزايداً على قضايا الأمة ومصالحها وشريكاً غير ناصح، وهو حضور له ما بعده، وعلى الأمة العربية وقد فرطت ب(العراق) ألا تفرط بنفسها فتكون خبراً بعد عين، وأندلساً أخرى لا تجد لها مكاناً إلا في كتب التاريخ، ومن أولويات مهماتها التي يجب أن تتصدر مؤتمرها إعادة إيران من حيث أتى دون المساس بمصالحه المشروعة أو التعدي على سيادته الإقليمية، فالأمة العربية بممارسة حقها المشروع تستعيد كرامتها وحريتها، وإن كان ثمة حاجة إلى تحديد المواقع والقضايا التي أصابها دخن الثورة والطائفية فإن ذلك من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل.
والقمة القادمة لن تكون امتحاناً للإرادة العربية مثلما كنا نقول من قبل، ولكنها على الأقل لحظة مراجعة ومكاشفة، والأمل أن تضع حداً للمأزقية وأن تكون خطوة أولى في سبيل العودة إلى جادة الصواب.
وإذا كانت بعض الدول العربية غير قادرة على انتزاع نفسها من هذا المأزق أو ذاك فلا أقل من التفكير الجاد لتحجيم هذه المآزق وإيقاف اتساعها واللجوء إلى البدائل الأخف تكلفة وتأثيراً على المصالح المشتركة ولكي يتحقق بعض المراد فإن سبيل ذلك التخفيف من حدة التوترات الداخلية والنزاعات الطائفية والإقليمية والقبلية؛ فالخلوص من المشاكل الداخلية يقلل من الحاجة إلى الداعم الخارجي، فالدولة المأزومة قد تلجئها أوضاعها إلى شيء من التنازلات، ولو أن أي دولة مأزومة حاولت بإمكانياتها الذاتية تقليص مشاكلها الداخلية لكان بإمكانها الاستغناء عن بعض الدعم المشروط.
فهل تكون القمة القادمة لحظة مراجعة واعية تعيد للأمة كرامتها وهيبتها وتمكنها من إدارة شأنها بنفسها؟
هذا ما يتطلع إليه الشارع العربي بكل مأزوميته ومأزقيته.