بعد ترقب طال انتظاره صدر القسم الأول من معجم أسر القصيم لمعالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، وهو ما يخص مدينة بريدة باسم: (معجم أسر بريدة) في ثلاثة وعشرين مجلداً، وعدد صفحاته قاربت (12131 صفحة).
ومعالي الشيخ غني عن التعريف أشهر من علم في رأسه نار، وليس مثلي من يُعرِّف به، ويصدق عليه ما سمعته مرة من الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله-، إذ قال لي وهو يراني أقرأ قصاصة صحيفة ملقاة على مكتبه كتبها أحدهم عنه، قال: (لقد بلغت في نفسي منزلة ما لا أحتاج معها إلى مدح أحد).
وصدق الشيخ -رحمه الله-، ويصدق هذا أيضاً على شيخنا بحر العلوم الذي جمع الفنون فأوعى معالي الشيخ العبودي -حفظه الله وأمد بعمره وبارك في علمه-.
ولا يعني هذا طي الذكريات مع الشيخ وحكاية أخباره وأحواله، ففيها المتعة والعبرة، ولكن المقصود صف عبارات الثناء من الأدنى للأعلى.
وقد وهب الله الشيخ ذكاء مفرطاً وذاكرة عجيبة، كنت أتمنى من الذين عملوا معه في الإدارة أو رافقوه كثيراً أن يسجلوا لنا شيئاً من ذكرياتهم عنه، وحينما كنت معاراً لرابطة العالم الإسلامي كنت مرتبطاً بالشيخ في عملي، وكثيراً ما سمعت من الموظفين قصصاً طريفة عن ذاكرة الشيخ وحفظه، وليس الحديث هنا عنه وإنما عن إصداره الجديد، لكن لا مانع أن أذكر هنا حادثة طريفة، وأنا متأكد من أن الشيخ لم يكن يلقي لها بالاً إبان وقوعها، لأن هذا ديدنه ولا يهتم له لأنه من خلقته، فقد كنت موجوداً في مكتبه حينما دخل عليه وفد من الصين، فهش لهم الشيخ وبش ورحب كعادته في دماثة أخلاقه مع الجميع، وانطلق يحدثهم عن ذكرياته عن الصين وكأنه يقرأ من كتاب، وهم يرتشفون القهوة ويضحكون ويتناظرون فيما بينهم عجباً وإعجاباً، ثم قال لهم إني زرت أغلب مدن الصين إلا المدينة الفلانية والمدينة الفلانية، وأصبح يُعدِّد لهم المدن التي لم يزرها بألفاظها الصعبة وبنطق صحيح حسب ما علمت منهم، فزاد عجبهم من الشيخ، وحُق لهم ذلك، وإذا كان الشيخ يذكر أسماء المدن التي زارها على الرغم من صعوبة نطقها واستحالة تذكر بعضها لمن هم مثلنا، ولا يعلم هذا إلا من جرب زيارات المناطق ذات الأسماء الصعبة والنطق الملتوي، فكيف به وهو يذكر المدن التي لم يزرها بنطق صحيح ولفظ سليم، وكان الشيخ مسترسلاً بحديثه لا يلحظ عجب الوفد من هذا الشيخ الطاعن في السِّن، وهو بمثل هذه الذاكرة العجيبة والإدارك السليم.
ومواقف الشيخ في مثل هذا كثيرة لا تُحصى، وقصدي أن هذا مما يمتدح به الناس، وبخاصة العلماء، وكان أسلافنا من علماء الجرح والتعديل عند تقييمهم للرجال يؤكدون على سلامة الحواس وعلى قوة الحفظ وعدم التخليط أو الوهم الذي يُصيب الكثيرين عند تقدمهم في العمر.
ومقصودي من هذه اللفتة البسيطة عن الشيخ أنه ليس لأي أحد أن يتصدر للحديث عن أخبار الناس وأنسابهم وأحوالهم وتراجمهم، فلهذا العلم أهله ورجاله الذين حباهم الله بمدارك وميزات خاصة، كما أي علم آخر.
أما الحديث عن هذا المعجم الفريد، فليس في هذا الحيز الصغير، لكن أشير فقط إلى أن الشيخ في صدد إصدار بقية المعجم عن باقي أسر القصيم، وتقسيمها كالتالي:
1 - معجم أسر بريدة.
2 - معجم أسر عنيزة.
3 - معجم أسر شمال القصيم.
4 - معجم أسر جنوب القصيم.
5 - معجم أسر شرق القصيم.
6 - معجم أسر غرب القصيم.
نسأل الله للشيخ التوفيق في إخراج بقية هذا المعجم.
وبالنظرة السريعة إلى معجم أسر بريدة يبهر المطلع عليه أمور عدة، منها كثرة التراجم للأشخاص، وإضافة معلومات جديدة عن كثير من الأعلام المشهورين مثل تراجم العلماء والأمراء والوجهاء، وفي الكتاب تنوع في المعلومات والفوائد لا نظير لها، فينتقل القارئ في الصفحة الواحدة أو الصفحات القليلة ما بين معلومة في النسب إلى ترجمة لعلم إلى فائدة فقهية مع تفسير لفظة عامية أو فصيحة أو تفسير لمصطلح أو تعريف بموضع.. إلى ما لا يمكن حصره من الفوائد التي تدل على غزارة علم الشيخ وتنوع قدراته ومواهبه، ولهذا فإني أول ما اطلعتُ على هذا المعجم قلت في نفسي إن الشيخ العبودي يصح أن يُطلق عليه (بلاذري العصر)! -إضافة إلى ألقابه الأخرى- والبلاذُري هو علم من أعلامنا العظماء في القرن الثالث الهجري ممن كتب في الأنساب والتراجم أعظم كتاب هو كتاب: (أنساب الأشراف).
كما يبهر المطلع على المعجم سرد أحداث تاريخية مهمة تتعلق بتاريخينا الوطني والمحلي لا نجدها عند غيره، وتوجيه لبعضها، ومناقشة لأخرى دونها غيره بطريقة فيها لبس أو خلل أو نقص.
وإن من أعظم ما استوقفني في هذا المعجم كثرة الوثائق وضخامتها في الكتاب، وهي من أبرز سماته وخصائصه، ولا تخفى أهمية الوثائق في علم التاريخ والأنساب والتراجم، ولتمرس الشيخ في قراءة الوثائق وموسوعيته العلمية.. فقد أضاف ما لا يقدر عليه غيره في فهم الوثائق ودراستها واستنباط المعلومات منها.
والحق أني أشفقت على الشيخ كثيراً حينما رأيت كثرة الوثائق في الكتاب، لأني على يقين لمدى المعاناة التي لاقاها في سبيل الحصول على هذه الوثائق، ومن ثمَّ معالجة نصوصها ومحاولة فهمها وتوظيفها بشكل سليم، وكم أتمنى أن يُقيض الله شباباً نابهين يُفهرسون هذه الوثائق ويقدمونها خدمة للعلم وأهله، وهي مجال خصب للدراسات التاريخية واللغوية والحضارية والاجتماعية والأدبية والعلمية عن المنطقة.والعجب من هذا المعجم ومصنفه لا ينقضي مثل باقي إنتاج الشيخ في شتى العلوم والفنون الأخرى، وقصدت هنا التبشير فقط إلى أن هذا السِّفر العظيم سيُطل على الجميع في معرض الكتاب القادم كما أخبرني ناشر الكتاب الأخ الدكتور محمد بن عبد الله المشوح، الطالب النجيب للشيخ، الذي أشكره شكراً خاصاً على جهده وجهاده في مساعدة الشيخ وحضه على إنجاز وعوده العلمية فيما يخص بلادنا ومجتمعنا، والأقربون أولى بالمعروف.
د. عبدالعزيز بن سليمان المقبل