حصلت شرطة دبي على إشادات استثنائية لدورها الفاعل في كشف ملابسات جريمة اغتيال محمود المبحوح، أحد قياديي حركة (حماس)، في 20 يناير (كانون الثاني) الماضي. ووجدت شرطة دبي نفسها في مواجهة مباشرة مع الموساد الإسرائيلي، الجهاز الأكثر احترافية في قضايا الاغتيالات، الذي يتمتع بحصانة دولية غير معلنة تمكنه في الغالب من الفرار بجرائمه دون محاكمة أو إدانة.
استغلال منفذي عملية اغتيال المبحوح جوازات سفر أوروبية أدى إلى زيادة الضغوط على إسرائيل التي باتت في مواجهة مباشرة مع بعض الدول الأوروبية منذ الكشف عن تفاصيل جريمة الاغتيال.
يبدو أن قضية اغتيال المبحوح ستأخذ أبعاداً غير متوقعة، والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت على مستوى المعلومات الاستخباراتية الخطرة، أو ربما الدبلوماسية التي تضغط نحو لملمة القضية وسحبها من الواجهة الإعلامية وفق تسوية خاصة تختلط فيها القضايا الأمنية الاستخباراتية المعقدة بالشؤون الاقتصادية المالية!.
بعيداً عن البُعد الاستخباراتي السياسي أجد أن ما تحقق من إنجاز أمني في دبي يرجع الفضل الأول فيه إلى الله سبحانه وتعالى ثم إلى التقنية الأمنية المطبقة في دبي. لا يمكن أن نبخس الكوادر البشرية المحترفة حقها في الكشف عن ملابسات جريمة الاغتيال، وتتبع تفاصيلها بكل دقة ووضوح، إلا أن الجانب التقني كان له الدور المهم والحاسم في القضية. تعتمد دبي على شبكة كاميرات مراقبة موزعة بعناية فائقة في المطار، الشوارع، المترو، الفنادق، والنوادي، وربما في كل مربع من أرض الإمارة الصغيرة. تسيطر الشرطة بحرفية تامة على مخرجات تلك الكاميرات المتصلة بحواسيب ضخمة حديثة قادرة على قراءة الصور وتحديد الهويات، أو تقريبها لصور وهويات موجودة في الذاكرة، أو مُلتقطة في أحد المواقع، والربط بين مواقع تواجد أصحابها، واستخراج صور الشخصيات المطلوبة تلقائيا، وتنبيه المراقبة الأمنية عنها.. منظومة إلكترونية متكاملة تحتاج إلى عدد محدود من الكوادر الأمنية المتخصصة، إلا أنها قادرة على تحقيق نتائج حاسمة تفوق في كفاءتها ودقتها ما تقوم به مجموعات أمنية ضخمة تقدر بعشرات الآلاف.
تطوَّرت الاستراتيجيات الأمنية حول العالم، وأصبحت تعتمد كثيراً على التقنية القادرة على تحقيق الكفاءة القصوى، بعيدا عن الأخطاء. التطوُّر التقني وضع بين يدي مسؤولي الأمن الخيارات المثلى في التعامل مع الحشود البشرية التي يصعب التعامل معها بدقة، وأتاح لهم القدرة على كشف الجرائم وقت حدوثها، والبحث والتقصي، وتتبع الشخصيات المطلوبة، وتحديد إحداثيات تواجدها بسهولة من خلال شاشات الكمبيوتر، وأكثر من ذلك الكشف الاستباقي عن وجود الشخصيات المطلوبة حال مرورها من أمام كاميرات المراقبة. قطعا هناك فارق كبير بين الكاميرات التقليدية التي تحتاج إلى العنصر البشري لتحليل مخرجاتها الحية والكاميرات الدقيقة المرتبطة بحواسيب ذكية قادرة على قراءة البيانات والصور وتحليلها وتنبيه المراقبين عنها دون تدخل بشري، وهي الأنظمة المُكلِّفة والمحبذة لدى أجهزة الأمن الغربية.
تقنية التعرُّف على الشخصيات من خلال بصمة الأصبع، حدقة العين، صورة الوجه، الصوت، وغير ذلك من التقنيات الحديثة باتت تقدم خدمات جليلة لمسؤولي الأمن حول العالم، وتساعدهم في إنجاز مهماتهم الأمنية بدقة وكفاءة، وفي ثوان معدودات. البرامج الأمنية والحواسيب الذكية أصبحت تدير العمليات الأمنية، التقليدية والمعقدة، نيابة عن العناصر البشرية التي باتت موجهة نحو تنفيذ العمليات الميدانية، كملاحقة المجرمين وتوقيفهم والتعامل معهم. برامج الكمبيوتر الذكية وكاميرات المراقبة قادرتان على تحديد أرقام لوحات المركبات المشبوهة، أو المسروقة، بمجرد مرورها، وتتبعها وتنبيه رجال الأمن بموقعها الدقيق، والتعرف على الشخصيات المطلوبة من خلال صورة الوجه، حدقة العين، البصمة، وربما مقاسات الجسم، ومتابعتهم أينما تنقلوا ضمن شبكة التغطية المرتبطة بجهاز الكمبيوتر الذكي. ولعلنا نستشهد هنا بالنجاح الكبير في الحرب على الإرهاب محليا الذي ارتبط جزء مهم منه بالتقنية الحديثة التي طبقتها وزارة الداخلية بكل كفاءة واحتراف.
التقنية الأمنية لا تقف عند كاميرات المراقبة والحواسيب الذكية؛ بل تتعداها إلى تقنية البحث، المراقبة، والاعتراض لرسائل الاتصالات، والقدرة على تتبع الشبكات الإلكترونية، والسيطرة على شبكات المدفوعات، وبطاقات الائتمان، والحوالات المالية، وكلها تحتاج إلى حواسيب ذكية وعقول محترفة لتحقيق الكفاءة والنجاح. كثير من العمليات الإرهابية حول العالم تم إحباطها بعمليات استباقية، اعتمادا على بيانات حصلت عليها كمبيوترات ذكية موجهة لمتابعة الجماعات الإرهابية إلكترونياً.
العصر الحالي هو عصر التقنية بأنواعها المختلفة، وأجهزة الأمن التي تستطيع أن تسلح نفسها بالتقنية، بغض النظر عن تكلفتها الباهظة، ستكون القادرة على أداء مهامها بكفاءة عالية، تتفوق فيها على احترافية الجيوش الأمنية المتطورة، ذات الخبرة الواسعة، وإن كانت هيئات استخباراتية عالمية. الاستثمار في التقنية الأمنية الحديثة يمكن أن يكون الجانب الأهم لرفع قدرات الأجهزة الأمنية، وتحقيق معايير الكفاءة والتميز، والعمل وفق منظومة أمنية متكاملة تعتمد في مكوناتها على دمج التكنولوجيا الأمنية الحديثة بالقدرات البشرية المحترفة.
* * *
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM