من يقرأ المجتمع السعودي عبر الوقت يلاحظ تحولات نوعية في الحياة، ومنظومة فكرية في العقول، وواجهات جديدة في الشخصية الوطنية.. مَن يريد أن يتعرف على أي مجتمع فعليه أن يقارن الوقت،
ويلاحظ الزمن.. فلا يمكن أن يعرف شخص ما مثل هذه التحولات دون أن يقرأ الزمان والمكان.. ودون أن يحتكم لمقارنات عبر الزمن وعبر المكان..
نحن نعيش داخل هذا المجتمع وندور في فلكه دورة يومية على مدار الساعة، نندمج فيها مع الناس والسياسة والاقتصاد والتعليم والإعلام دون أن ندرك ذلك.. نعيش ونندمج مع الزمن والمكان مع الحياة والطبيعة.. وبحكم أننا داخل هذا المكان فنحن لا نقرؤه جيداً، لأننا ربما نفكر في اللحظة الحالية التي نعيشها، ونتوقف في مساحات ضيقة جداً من المكان الواسع الذي يحيط بنا.. وكلما اندمجنا أكثر تبتعد عنا رؤية المجتمع كما هو وكما ينبغي أن نعرفه..
المجتمع السعودي خاض خلال العقود الماضية تحولات نوعية هائلة غير منظورة من زاوية اللحظة الحالية، وغير منظورة عندما نقف في مكان واحد وننظر فيه إلى أقدامنا فقط دون أن نتجه إلى الأفق البعيد والمساحات الواسعة حولنا.. الصورة الكاملة أو البحث عن الصورة الكاملة كما سبق أن كتبتها في عدد سابق هي المفقود في ذاكرتنا الحاضرة، فنحن نفكر في اللحظة دون البحث عن الماضي أو التفكير في المستقبل.. ما حدث في بلادنا هو تجربة تنموية هائلة بكل المقاييس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية، ولكن لم يسجل التاريخ إلى اليوم الحجم الحقيقي لهذه الإنجازات العميقة في بنية المجتمع.. ومن يعش في الداخل ويتآلف مع روتين العمل اليومي، يفقد هذه الصورة التي ينبغي علينا جميعاً استيعابها في المشهد السعودي العام.
وتحديداً ما أقصده في هذا المقال هو كيف ينظر النشء السعودي إلى الماضي وكيف يفكر في المستقبل.. نعرف أن شباب الحاضر ممن هم في السن العمرية للثانويات والجامعة هم الجيل الذي نحاول أن نعده للمستقبل، ولكن نعرف أيضاً أن هذا الجيل هو مرهون للحظة المأزومة التي يعيشها الآن دون العودة إلى الماضي، وهو مرهون في المكان الذي تقف عليه قدماه دون الحراك إلى أماكن أخرى..
كيف لنا أن نطلق الفكر والعقل لهذا الجيل للتبصر في حياتنا وتاريخنا وجغرافيتنا ومستقبلنا؟ هذا سؤال في بالغ الأهمية.. وتتحمل وزارة التربية والتعليم ومعها التعليم العالي والجامعات مسؤولية وطنية وتاريخية في تحديث هذه العقول وتنشيطها لتصبح ذاكرة وطنية حية وعقولاً ناشطة في تاريخنا ومستقبلنا.. إن الأزمة التي نعانيها وتعانيها كثير من المجتمعات الأخرى هي الانقطاعية الكاملة عن الأصول سواء كانت تاريخاً، أو طقوساً، أو ممارسات.. وقد أنبتت في أذهان الجيل الحاضر مفاهيم وطقوس وأفكار بعيدة عن المكان الذي نعيش ويعيشون فيه..
الأجندة التي تحتل عقول شباب الجيل الحالي تختلف كماً ونوعاً عن الأجندة التي تحتل عقول باقي المجتمع ممن يكبرهم في التاريخ والخبرة الوطنية.. والأولويات التي ترتكز في عقول النشء السعودي هي غير تلك التي كان عليها شباب آخر كان يعيش في العقود الماضية.. وبطبيعة الحال لن تكون هي الأجندة التي ستحتل عقول شباب المستقبل، وهذا يخيفنا كثيراً.. فلا نعرف إلى أين نتجه في كثيرٍ من بعض الأمور العامة والخاصة في مجتمعنا السعودي بما ننظر إليه من معطيات حالية في فكر وسلوكيات هذا الجيل..
وإذا عدنا إلى موضوع الصورة الكاملة والصورة الجزئية، فإننا للأسف نجد أن وسائل الإعلام تساعد - بقصد أو دون قصد - في تكريس مفهوم الصورة الجزئية نحو القضايا والموضوعات.. فمع التغطيات الروتينية والمتابعات الإخبارية تقدم لنا وسائل الإعلام سواء هنا أو في كل مكان تقريباً من العالم صوراً جزئية غير كاملة نحو الأحداث والقضايا المحلية أو الدولية.. وتكرس واقعاً منقوصاً في الصورة التي تطبعها على العقول والذهنيات الحاضرة.. وتتبدى قتامة هذه الصورة أكثر لمن هم لا يمتلكون الحاسة الزمنية التي تذكر بالتراث والتاريخ والأصالة والمواقف التي بني وتأسس عليها المجتمع..
وأخيراً، فنحن ربما نحتاج إلى استراتيجية ثقافة وطنية اجتماعية تكرس مفاهيم التراث والأصالة في عقول شبابنا، ولا أظن أن مادة التربية الوطنية أو مادتي التاريخ والجغرافيا ستكونان كافية لتغذية هذا الجيل بما نقصده من تحميله مسؤولية المستقبل.. وبناء أجندته كما نريدها، أو تسليحه بأولويات تختلف عن تلك التي تحتل ذهنيته في اللحظة الحالية.. فالأوليات التي ترتسم في عقول هذا الجيل - ولا أقصد الجيل كاملاً -هي بلا شك مبنية على مشاهدات فضائية وخبرات خارجية وتبادلات ثقافية وإبحارات في الإنترنت وعوالم التقنية والاتصال.. لا نستطيع أن نوقف عجلة التغير، ولكن ربما يمكن لنا أن نبني مساراتها التي تواكب توجهاتنا المجتمعية.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa