هناك شخصيات اعتبارية تثير ضجة علمية إيجابية لما تمتلكه من قدرة على العطاء والتغيير، ومن أولئك الشخصيات الشيخ محمد بن ناصر العبودي الذي حفظ للقصيم جغرافية الأرض وتاريخ الناس في إصدره قبل ربع قرن أو أكثر كتابه: (بلاد القصيم المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية) حيث رصد الأرض: الحجر والرمل والهضاب والحافات والجبال والقرى والأرياف. ورصد تاريخ الناس الحضاري والسياسي: منازلهم وأوطانهم وحروبهم وغزواتهم وتحركاتهم وقبائلهم وأنسابهم وأصولهم البعيدة.
ففي إصداره المعجم الجغرافي أحدث الشيخ محمد العبودي هزة عليمة ايجابية استثارت الباحثين للكتابة شالباحثون يتغذون عليه وينهلون منه لأن العبودي رصد القصيم وهي على (عروشها) مياهها سائحة على الأرض، والقرويون في قراهم يبنون بيوت الطين ويعتاشون من الحرف اليدوية والتجارة الموسمية، وأهل الريف في أريافهم يحرثون الأرض وينبتون النخيل والأثل. والبادية في ترحال دائم تطارد السحاب والمياه وإخضرار الأرض وأعشاب الفياض والخباري، أما المدن فرصدها وهي لتوها متحللة من الطين والحجر بيوتها متطامنة تكاد تلامس شفافية الناس وأطوال قامة رجال ... وشوارعها تضيق وتتسع وفقاً لوجاهة الأحياء والسكان، رصد القصيم قبل الثمانينات الهجرية والناس في هجرهم وقراهم والهضاب والتلال والآبار كما هي لم تجرفها سنوات الطفرة العمرانية والاقتصادية، وفي العقد الأول من المئة الأولى من الألفية الميلادية الثالثة يحدث الشيخ العبودي ضجة علمية إيجابية عندما أصدر كتابه: (معجم أسر بريدة) الذي جاء على 23 مجلداً نشرته دار الثالوثية بالرياض، حيث رصد سجل وتاريخ معظم أسر بريدة ليقدم للباحثين مادة علمية غنية في علوم: التاريخ والجغرافيا والاجتماع والسياسة والأدب وفي دراسات معمقة في الانثروبولوجيا والاثنواركيولوجيا وفي اللسانيات عندما اتكأ على تراث كامل من المخطوطات والسجلات المكتوبة والروايات الشفوية، فقد كسر الشيخ محمد العبودي حاجزاً زمنياً هو زمن حسين بن غنام المتوفى عام 1225هـ وعثمان بن بشر المتوفى عام 1290هـ وزمن إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1343هـ وهي أهم الكتب التي تؤرخ لمملكتنا في التاريخ الحديث، بل إن العبودي ومن خلال الوثائق ربما عاد إلى ما قبل القرن العاشر قبل أن تتشكل الجزيرة العربية وتظهر الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري... وهنا أهمية ما يحمله معجم أسر بريدة؛ لأنه يعيد رسم التاريخ الاجتماعي والحضاري والثقافي لمنطقة كانت فيما مضى قلب الحدث السياسي والاجتماعي ومحور صراع قوى محلية حضرية وقبلية وقوى دولية: الدولة العثمانية والبريطانية والبرتغالية، وتتجاذبها التيارات السياسية والحضارية في العراق والشام.
معجم الشيخ العبودي سيكون نقطة تحول للبحث العلمي والاجتماعي والثقافي والاستيطاني في القصيم لأنه أوجد ووفر مادة علمية جديدة لم يكشف عنها من قبل، وجمع شتاتاً تاريخياً كان متفرقاً لمجتمعات عاشت في الماضي ومجتمعات مازالت تعيش في حاضر القصيم.