النقد الهدام المغلَّف بالحقد والحسد مهنة لا تتطلب مؤهلات لممارستها، ولذا يُمكن لأي شخص -جاهلاً أم عالماً- ممارسته متى ما أراد ذلك.. ولعل أبرز سمات النقد الهدام فقدانه للطف في القول والنصح، وهو أمر طبيعي لأن المقصود من هذا النقد ليس الإصلاح وذكر محاسن الغير، وإنما الهدم والتحقير لمنجزات الغير..
ولذلك نجد حرص الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- على استخدام النقد البنَّاء الممزوج باللطف والليونة في الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-.. كيف لا.. والله تعالى الذي أرسلهم للبشرية هو «الخبير اللطيف» (الملك: 14). إن المنهج الرباني يحث على اللطف والليونة في القول. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل 125).. وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران، 159).. ومن الدروس العظيمة التي قدمها لنا الله -سبحانه وتعالى- في لطف القول والتوجيه والنهي تحريمه المتدرج للخمر.. كان العرب متعلقين بها تعلقاً شديداً، فلو أمرهم أن يتركوا الخمرة بآية واحدة فربما ارتدَّ بعضهم، أو نصفهم عن الإسلام، لكن الله لطيف، قال تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل: 67) ألطف إشارة إلى أن الخمر هي رزق ولكنه ليس حسناً، فقال: تتخذون منه سَكَراً، مادة مُسكِرة، ورِزقاً حسناً: تظنون أنه حسن وهو مسكر فليس بحَسَن، هذه أول إشارة.. وبعد ذلك قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (النساء: 43).. يعني إن شربْتَ فلا عليك ولكن دعه عند الصلاة، وبعد ذلك قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219). المنافع للذين يتاجرون بها ويعيشون على دخلها، ثم يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90). يبين هذا التحريم الرباني المتدرج للخمر مدى أهمية اللين واللطف في نقد ما يفعله الآخرون وحثهم على إصلاح أنفسهم.
وفي سيرة الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- نجد دروساً عظيمة في النقد اللطيف البعيد عن التحقير والإهانة.. كيف لا وهم قد جاءوا بدعوة ربانية موجهة للجميع وبأسلوب يحاكي قدرة البشر على التفريق بين الخير والشر: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (هود: 61).. وجاء في الأثر أن رجلاً دخل على بعض الخلفاء، فقال: إنني سأعظك وأغلُظ عليك، وكان هذا الخليفة فقيهاً، فقال: ولِمَ الغلظة يا أخي، لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو أشرُّ مني؛ أرسل موسى وهارون إلى فرعون، فذكر قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44) سورة طه.. ولنا في سيرة رسول الله وخاتم الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، كيف لا وقد أُنزل رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان يأمر أصحابه بذلك ويقول: (يسرا ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا).. وعن أنس قال: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين بالمدينة وأنا غلام، ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه، ما قال لي فيها أف قط، وما قال لي لم فعلت هذا أو ألا فعلت هذا) (متفق عليه).
ولقد لاحظت خلال دراستي في الغرب حرص الكثير منهم على استخدام منهج النقد البنَّاء في حوارهم ونقاشهم لبعض المسائل العلمية التي تتعدد حولها الآراء أو في مجال نقدهم لمؤسساتهم الاجتماعية والعلمية، فتراهم يستخدمون عبارات جميلة للغاية لتوصيل آرائهم العلمية دون توجيه عبارات لاذعة تحط من مكانة محدثهم العلمية والاجتماعية.. فهم يستخدمون عبارات مثل: «أعتقد I think»، «يبدو لي أن It seems to me that»، «سامحني لقول ذلك، ولكني ما زلت لا أفهم ما تقول Forgive me to say that, but I still cannot understand what you›re saying»، ألا تعتقد أن بعض ما ورد في كتابك ينقصه التوثيق المناسب؟ Don›t you think that some of what is stated in your book lack the appropriate citation?»، «ربما أنت محق فيما تقول، ولكن الدراسات السابقة التي تناولت نفس الموضوع ذكرت العكس. ما رأيك في ذلك؟ You may be right in what you›re saying, but previous studies, which examined the same topic, said the opposite. What do you think?
من المؤسف حقاً أن نجد في بعض مؤسساتنا العلمية والاجتماعية من يفتقد لمثل هذا النقد المقصود منه البناء وعلاج نقاط الضعف من خلال استخدام عبارات نقدية لطيفة ومرنة تحفز الحوار والطرح العلمي المثمر الذي من شأنه حفظ كرامة المتحدث والمستمع، وليس النقد الهدام الذي يحاول البعض من خلاله إقصاء الآخرين، وتحقير إنجازاتهم العلمية والاجتماعية.. ومن الأمثلة التي أوردها للقارئ هنا لتوضيح كيف يمكن للنقد أن يكون هداماً ومخلاً بحقوق متلقي النقد سؤال أحد الحاضرين لمجموعة من الباحثين أثناء تقديمهم لبحثهم المشترك القصير: «جميعكم مشتركون في هذا البحث؟» أدرك الحضور وأصحاب البحث المعنى الضمني لكلامه: «معقولة هذا البحث القصير لأربعة باحثين»، وهو ما أدى إلى رد عنيف من أحد الباحثين.. كان يمكن للسائل أن يقول: «يبدو لي أنكم قدمتم البحث بشكل مختصر جداً حرمنا من الحصول على معلومات وافية عن دوركم في البحث.. هل يمكن لنا أن نحصل على معلومات عن دوركم كباحثين؟» بهذه الطريقة غير المباشرة في النقد كان بإمكان السائل تجنُّب سخط الحضور والباحثين على الطريقة الفظة التي استخدمها في سؤاله للباحثين، وفي نفس الوقت حقق مبتغاه في نقد البحث والباحثين.
ومن الأمثلة الأخرى التي توضح مدى أهمية مراعاة أصول نقد الآخرين إجابة أحد الأكاديميين ممن لهم سنوات طويلة في العمل الأكاديمي في لقاء صحفي عند سؤاله عن مجال الترجمة، يقول: «.....، وبعض مراكز الترجمة الرئيسية في بلادنا يترأسها جيولوجيون وكيماويون كوجاهة عامة».. وجَّه هذا الأكاديمي نقداً مباشراً لرؤساء بعض مراكز الترجمة في المملكة -بحسب كلامه- ولكنه من الواضح أنه يعني بالدرجة الأولى مركز الترجمة في مؤسسته العلمية، لأنه ذكر تسميتين وهما: «جيولوجيون وكيماويون»، وهو أمر يدركه من لديه معلومات عن مؤسسته العلمية.. هذا نقد هدام لأنه انتقل في نقده إلى رؤساء مراكز الترجمة وليست المراكز ذاتها وطرق التعيين فيها. كان نقده سيكون أفضل لو أنه قال: «ويُعاب على هذه المراكز أن القائمين عليها ليسوا من المتخصصين في مجال اللغات والترجمة».. بهذه الطريقة يبعد الناقد نفسه عن الأمور الشخصية التي ربما تقود إلى التقليل من منجزات الغير حتى ولو لم يكونوا من حملة الدرجات العلمية في اللغات والترجمة. هناك من يحمل درجات علمية عليا في اللغات والترجمة ولم يقدموا شيئاً يُذكر.. وفي سياق آخر رد هذا الأكاديمي على سؤال بخصوص إحدى الجمعيات العلمية النشطة في المملكة:» الجمعية... أليس في الإمكان أحسن مما كان؟»، فيرد بقوله: «أتمنى لو سألت، أليس في الإمكان أن تغلق؟.. فهي مثل شاخص على كيفية استغلال ما يفترض أنه نشاط عام مفيد إلى مصالح شخصية ضيقة؟...» هذا النقد يفتقد إلى اللطف في النقد وربما يصل إلى حد القذف الذي يعاقب عليه القانون، خصوصاً أنه موجه إلى جهة تعمل تحت مظلة مؤسسة علمية منافسة لمؤسسة الناقد العلمية، ويقوم على هذه الجمعية شخصيات اعتبارية في الدولة. كانت هناك طرق أفضل لنقد الجمعية دون الخوض في قذف رموزها بعبارات غير لائقة، ومنها: «لقد حققت الجمعية بعض الإنجازات، ولكنها بحاجة للمزيد من العمل لتحظى بالقبول من الجميع».. أو «ما زالت الجمعية تعاني من بعض السلبيات التي أرجو من إداراتها الحالية معالجتها لتحقق الجمعية رسالتها في مجال الترجمة.» وعند سؤاله عن مؤسسته التعليمية: «جامعة... هل أنصفتك؟»، فيرد: «الجامعة بالنسبة إليّ كليتي، اللغات والترجمة، وبما أني أحد القلائل المتخصصين في دراسة الترجمة، بل الوحيد في نظرية الترجمة، وكليتي لم تعترف بي بَعْد، لأنها ربما عن جهل، لا تعترف بالترجمة تخصصاً...» يتضح من كلام هذا الأكاديمي أنه يفتقد للتمييز بين ما يشعر به (شخصياً).. وما يجب أن يقوله أمام الرأي العام (عندما يتعلق الأمر بمكان العمل يجب أن لا تخرج الخلافات الشخصية عن محيطه).. لو أطلق الجميع العنان لمشاعرهم نحو مؤسساتهم العلمية أو الاجتماعية في الأحاديث الصحفية، لتحولت صحفنا إلى «صحف صفراء».. إن وصفه لكليته المعنية بالترجمة بأنها لا تعترف بالترجمة كتخصص فيها لأنها لا تعترف به يُعد مبالغة وجلداً لذاته وذات الآخرين. كان بإمكان هذا الأكاديمي أن يكون موضوعياً وبناءً في نقده لو أنه قال: «بشكل عام الترجمة في بلادنا تعاني من عدم الاعتراف بأهميتها كعلم متخصص، وهو ما أثر سلباً على مكانة المتخصصين في الترجمة أكاديمياً ومهنياً واجتماعياً».. بهذه الطريقة يتمكن هذا الناقد من توصيل فكرته دون التعرض لرموز كليته، فذكره لكليته وأنها لا تعترف به وتخصصه.. يتضمن اتهاماً صريحاً لإداراتها بأنها غير مهتمة بالترجمة ومن يدرسها في الكلية، وهذا نقد غير سوي يخرج عن أصول النقد البنَّاء المرغوب فيه لأن فيه قذفاً مباشراً للقائمين على إدارة الكلية.
والله من وراء القصد.
mohammed@alhuqbani.com