عندما تصل إلى الأحساء التي تمر بمرحلة بناء وتطوير غير مسبوق امتداداً لجهود خادم الحرمين لتطوير مدن المملكة وخدمة المواطنين, فتستقبلك المطبات الصناعية والحفريات الكثيرة لإصلاح الشوارع فتتضايق كثيراً وتضيع وجهتك فتولد لديك مشاعر عديدة قد تكون سلبية عن هذه المدينة، ولكن سرعان ما تنسى تلك المشاعر حينما تقابل أحداً من أهل الأحساء فتزول كل علامات العناء والتعب وتعيش بين أيادي أهل كرم وعلم وأدب لا تستطيع الانفكاك من جودهم وكرمهم وطيبة أخلاقهم إلا بالتهرب والمغادرة، وقد جمعوا بين العلم والأدب والتسامح والتواصل والتعددية. وهذا ما شعرت به حينما زرت الأحساء في الأسبوع الماضي في ضيافة معالي الشيخ قيس المبارك عضو هيئة كبار العلماء، حيث دعانا لزيارته أثناء مشاركته في مؤتمر الأخلاقيات الطبية في أمراض الوراثة التي عقدت في أروقة مستشفى الملك فيصل التخصصي قبل شهرين، فأتحفنا معاليه بدعوته لنا لزيارة الأحساء وأصر على ذلك فتحققت تلك الزيارة -ولله الحمد- فرأينا فيها أهل الأحساء بطيبتهم وكرمهم وحسن أخلاقهم, فأول ما تلاقيه وأنت تسأل أحداً من أهل الأحساء عن وجهتك أن يعرض عليك الضيافة في منزله ثم يتبعها بالحلف والقسم بأن تنزل على داره وتشرب القهوة فتعتذر منه فيحرجك بأن لا يكتفي بأن يصف لك وجهتك بل يصر على أن يسير أمامك في سيارته حتى تصل إلى وجهتك وهو يبتسم ويفرح بهذه الخدمة التي تحرج زائر الأحساء حتى أننا قررنا أن لا نسأل عن الوجهة التي نضيعها حتى نجد صعوبة كبرى في الوصول إليها لكي لا نحرج أولئك الناس الطيبين ذوي الأخلاق الحميدة والقلوب الصافية في المسير معنا.
وقد سعدت بتلك الزيارة الترفيهية أصلاً لأنها انقلبت إلى زيارة ثقافية أدبية كسبت فيها من العلم والأدب ما لم أحصل عليه في سنوات كثيرة, حيث أكرمني الله بالتواصل مع علماء الأحساء الكبار ومنهم الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ مبارك وابنه الشيخ العلامة قيس آل الشيخ مبارك عضو هيئة كبار العلماء وأستاذ الفقه بجامعة الملك فيصل بالأحساء وكذلك الشيخ الفاضل ذو المكانة العلمية والفضل أحمد الدوغان الذي جاوز المائة من عمره وما زال يجلس في مجلسه اليومي للأدب والعلم والتواصل الثقافي، والأسماء كثيرة وعوائل الأحساء اشتهرت بالعلم والأدب وحب الخير، وأهل الأحساء قد اعتادوا على مجالس الأدب والعلم حتى في مناسباتهم الاجتماعية وتواصلهم وصلة الرحم بينهم, حتى تجد أن لكل عائلة مجلساً يومياً للتواصل الاجتماعي وصلة الرحم يكون في منزل أو مزرعة أكبرهم سناً يحضر له جميع أفراد العائلة وغيرهم، فهذا مجلس آل الشيخ المبارك، وذاك مجلس آل ملحم، وهناك مجلس الملا وذاك مجلس العرفج ... إلخ. ويتم فيه تبادل الأحاديث والأخبار العامة ومباريات الشعر والأدب بين كبار العائلة وصغارهم حيث يتم تصويب الصغار وتدريبهم على مكارم الأخلاق ومنابع الأدب. ولا يخلو المجلس من ذكر الله بقراءة للسيرة أو الأحاديث ولو لخمس دقائق لكي لا تفوت الفرص على الجميع لالتقاط جميع أطراف العلوم, ولكي يكون مجلس ذكر يذكرهم الله في من عنده. وبت أعذر الدكتورين الفاضلين راشد وإبراهيم المبارك اللذين فتحا مجلسيهما بالرياض في ديوانيتين ثقافيتين مشهورتين بالرياض للتواصل الثقافي ودفع عجلة الثقافة والحراك الثقافي، فهما قد اعتادا تلك المجالس الأدبية فلم يستطيعا أن يعيشا بدونها فأقاماها بالرياض. وللمجالس الأحسائية تقاليد خاصة تدل على السمت والوقار والأخلاق الحميدة من انضباط وتقدير للآخر أياً كان, ومن أحد هذه التقاليد أن كبار السن لهم التقدير والاحترام والقول, ولا يتم تداول الغيبة والنميمة ولا سفاسف الأمور في تلك المجالس، ومن تقاليدها الحرص على لبس البشت إكراماً للمجلس وللحاضرين حيث لا يدخل المجلس أحد من أفراد العائلة إلا وعليه البشت الحساوي ذو الأطراف المذهبة بالزري والدال على الشخصية المتزنة, وقد فسر هذا الحرص على لبس البشت إبداع أهلنا الأحسائيين في صناعة البشوت وحرصهم على هذه الصنعة التاريخية الوطنية الفذة.
ويشيد أهل العلم والأدب من أهالي الأحساء بجهود مؤسس هذه الدولة المباركة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- حينما زارهم والتقى بأعيانهم وعلمائهم وأشاد بهم، وكذلك حرص الملك عبدالعزيز -رحمه الله- على تطوير مدن الأحساء، ولا ينسون مشروع الري والصرف ومشاريع الدولة الجبارة في هذه المنطقة، وقد تجول بنا الشيخ قيس المبارك -وفقه الله- في قرى ومدن الأحساء حيث زرنا جبل القارة ومسجد جواثا وعيون الأحساء ومشروع الري والصرف, وقلعة إبراهيم والأسواق الشعبية وسوق البشوت، وقد استغربت كلام زميلنا الأحسائي الدكتور خالد السماعيل استشاري الأشعة في مستشفى الملك فيصل التخصصي حينما علم أننا سنزور الأحساء بضيافة الشيخ قيس المبارك عضو هيئة كبار العلماء، فقال إن كنتم في ضيافة آل الشيخ المبارك فلا مكان للآخرين في برنامجكم, ولن يسمحوا لكم بالفرار منهم إلا إليهم, ولكنني صدقت كلامه حينما وقعنا في ذلك الفخ فلم نجد فراراً من كرم وجود آل الشيخ المبارك إلا بالسفر، وقد تواصل معي الزميل الدكتور منذر العلوان بالهاتف يطلب منا أن نعطيه جزءاً من الوقت لإكرامنا فلم نستطع تلبية طلبه وقلت له إن كرم وجود أهل الأحساء قد غمرنا ولا نستطيع تلبية تلك الطلبات الغالية علينا، فشكراً لكم يا أهل الأحساء وهنيئاً لوطننا الغالي هذه المكارم وأخلاق الصحابة التي حافظتم عليها.
د. فهد بن محمد الخضيري
- مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض
khodairy@kfshrc.edu.sa