في الشهر الحالي سوف تحصل الجهود الدولية الرامية إلى منع إيران من إنتاج الأسلحة النووية على فرصة جديدة للعودة إلى الحياة، وذلك بعد أن تولت فرنسا رئاسة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فبوصفها رئيساً للمجلس فإن فرنسا التي تشارك أمريكا في وجهات نظرها حول ضرورة تعزيز العقوبات المفروضة على حكومة إيران من الممكن أن تثير هذه المسألة، وهو الأمر الذي تجنبته الصين أثناء فترة ولايتها في يناير/ كانون الثاني كرئيس للمجلس.
ولكن حتى لو نجحت الجهود الفرنسية الأمريكية في حمل جهاز الأمم المتحدة على تأييد العقوبات الرامية إلى منع الدعم المالي من الوصول إلى الحرس الثوري وغيره من النخب الإيرانية فإن التدابير المقترحة تبدو متواضعة إلى حد كبير؛ فهي قد لا تضيف إلا القليل إلى ثلاثة قرارات عقابية سابقة حظرت تصدير التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الصواريخ البالستية والأسلحة التقليدية، وتجميد الأصول المملوكة لعدد من المسؤولين الإيرانيين ومنعهم من السفر.
ولكنَّ هناك استثناء واضحا من هذا النمط، ألا وهو القرار الذي اتخذته ليبيا في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2003 بالتخلي عن برنامجها لإنتاج الأسلحة النووية. كان ذلك التحول الهائل الذي طرأ على البلاد بعدما يقرب من ربع قرن من الزمان من الجهود الرامية إلى الحصول على القنبلة بمثابة تراجع مذهل عن مسار الانتشار النووي. ولقد لعبت العقوبات دوراً رئيسياً في تحقيق هذه الغاية. إنَّ نجاح العقوبات إلى جانب أشكال أخرى من الضغوط في أداء الوظيفة المطلوبة منها يمدنا بالأمل بنجاحها أيضاً في تحويل مسار إيران.
كانت الجهود التي بذلها معمر القذافي للحصول على الأسلحة النووية أكثر جرأة من الجهود الإيرانية في السياق نفسه؛ فقد بدأت القصة بعد عام واحد من الانقلاب الذي قاده معمر القذافي، والذي أطاح بالملك إدريس السنوسي في عام 1969. ولكن بسبب عدم توافر الدراية اللازمة وغير ذلك من الموارد الضرورية لتصنيع القنبلة النووية فقد عقد القذافي العزم على شرائها.
وأثناء سبعينيات القرن العشرين اقترب القذافي من الصين والهند وباكستان، ولكن من حسن الحظ أن الدولتين رفضتا، على الرغم من عدم اشتراك الهند وباكستان في معاهدة منع الانتشار النووي؛ وبالتالي لم تكن أي منهما خاضعة لحظر نشر ترسانتها.
وقد استغل القذافي شبكة من الفرص؛ حيث زودته المناجم التي تسيطر عليها فرنسا في النيجر بخام اليورانيوم، ثم زودته إحدى الدول التي لم يتم الكشف عن اسمها بمرفق تجريبي لتحويل اليورانيوم، ثم زوده الاتحاد السوفييتي بمفاعل للأبحاث، الذي نجح العلماء الليبيون بالاستعانة به في استخراج كميات صغيرة من البلوتونيوم.
ولكن والد البرنامج النووي الباكستاني عبدالقدير خان وشبكته، هو الذي وفر له عنصر التكنولوجيا الحاسمة: أساسيات برنامج الطرد المركزي النووي، كما وفر له الباكستانيون تصميم القنبلة النووية.
ومع تصعيد ليبيا لجهودها ظلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على غير علم بما يحدث هناك. وعلى الرغم من التكهنات المنشورة حول نوايا ليبيا النووية فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية اعتبرت ليبيا دولة ملتزمة بمعاهدة منع الانتشار النووي. وكان غياب المقاومة الدولية ليسمح لليبيا بالحيز الكافي لتحقيق طموحاتها؛ فحماسة القذافي الثورية أضرت بهذا الهدف بسبب تحفيزها لفرض العقوبات الدولية التي أدت في النهاية إلى إسقاط برنامجه النووي.
وبحلول عام 1988 بلغ الصدام بين ليبيا والغرب ذروته بتفجير طائرة بان آم رقم 103 فوق لوكربي بأسكتلندا. وحتى ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تقود بمفردها معركة من أجل عزل ليبيا عن طريق قطع العلاقات الدبلوماسية وفرض العقوبات الاقتصادية والحظر على واردات النفط وصادرات الأسلحة.
ثم نجحت عقوبات مجلس الأمن التي فُرضت على ليبيا في عام 1992 ثم في عام 1993 بعد مأساة لوكربي في تغيير الديناميكية؛ ففي محاولة لإرغام ليبيا على تسليم مخططي الجريمة وتعويض أسر الضحايا والكف عن ممارسة الإرهاب قرر المجلس تجميد كل الرحلات الجوية التجارية من وإلى البلاد، فضلاً عن منع كل عمليات صيانة الطائرات، وشحنات الأسلحة بأنواعها وأشكالها كافة، وكذلك خفض التمثيل الدبلوماسي. إضافة إلى ذلك فإن تجميد الأصول المالية الليبية في الخارج والصادرات من معدات النفط كلَّف البلاد ما يقرب من 33 مليار دولار من العائدات؛ الأمر الذي أدى إلى تفاقم معدلات البطالة والتضخم التي كانت مرتفعة بالفعل.
ونتيجة لذلك اهتزت ثقة الحكومة وقبضتها على السلطة، ووجد مخططو الانقلابات العسكرية والإسلاميون في أنفسهم الشجاعة لتحدي النظام، وبالطبع سارع النظام إلى قمعهم بكل وحشية، ولكن العقوبات أدت إلى اندلاع معركة داخلية، وهي المعركة التي أغرت المتشددين الملتزمين بالحملة المناهضة للغرب بالتحرك ضد البرجماتيين (أصحاب الحس العملي)، الذين روجوا للاندماج في الاقتصاد العالمي.
واستمرت المواجهات، ورغم ذبول العقوبات فقد ألقى القذافي بثقله وراء البرجماتيين، وسلم المسؤولين عن تفجير لوكربي لكي يواجهوا المحاكمة، وأدان الإرهاب الذي كان يشجعه من قبل، وطرد الإرهابيين الأجانب الذين جعلوا من ليبيا بيتاً لهم. وفي عام 1999 استجاب مجلس الأمن بتعليق العقوبات.
وفي مواجهة احتمالات إعادة فرض إجراءات أشد قسوة، ومع استمرار البرجماتيين في الضغط من أجل توجيه البلاد نحو اتجاه جديد، أذعن القذافي؛ فقرر مقايضة البرنامج النووي بالتطبيع السياسي. وفي الحادي والثلاثين من مايو/ أيار 2006 أعادت الولايات المتحدة فتح سفارتها في طرابلس؛ فأنهت بذلك ربع قرن من الانقطاع في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
إن زوال المشروع النووي الليبي يقدم نموذجاً للتعامل مع إيران؛ فهو يشير إلى أن التحدي الجاد للمشروع النووي لن يأتي من فرض المزيد من العقوبات الهزيلة الآن، بل من التدابير التي من شأنها أن تشجع البرجماتيين في الحكومة الإيرانية المنقسمة على الترويج للتطبيع. والواقع أن وقت تطبيق هذه الاستراتيجية قد حان منذ أمد بعيد.
خاص بـ(الجزيرة)