عندما يصل المجتمع مرحلة متقدمة من النضج, يصبح بصورة تلقائية قادراً على قيادة نفسه باتجاه الحياة الأفضل, ويكون قادراً على إنشاء المؤسسات المدنية التي تقدم خدماتها للجميع بدون استثناء, ويبدأ يهتم بصورة أكثر بالإنسان - أي إنسان - بعيداً عن أي نوع من أنواع (التحزبات) السلبية.
وإذا ما انتشر الوعي الاجتماعي بصورة شاملة يصل إلى مرحلة مهمة جداً تمثّل هدف كل المجتمعات وهي (تصحيح الذات) نراه يصحح نفسه بنفسه, هنا نكون قد رشدنا الجهود والأموال والخطط وأصبحت الحياة معنا أسهل، ولا يكون ذلك إلا لمجتمع راشد يعرف ماذا يقول ويفعل.
لا نقول إننا وصلنا إلى هذه المرحلة الاجتماعية المتقدمة, ولا نقول إنها صعبة علينا, ولكننا نقول إن هناك طلائع جيل لدينا تنشد الوصول لهذا المجتمع, ونراها تعمل بجد وتفان, فهي سبقت مجتمعها في مستوى تفكيرها (عشر سنوات) على الأقل مقارنة باهتمامات الكثيرين التي لا تتعدى حدود يومها الحاضر.
وأبرز هذه الأفكار الاجتماعية: تلك الأصوات التي تنادي بمؤسسات مدنية ترعى شؤون (أسر المدمنين) وتعيد تأهيلهم مرة أخرى ليعاودوا الركض من جديد بعد أن خسروا الشيء الكثير من جراء التبعات التي جرها عليهم المدمن.
إن مدمن المخدرات أياً كان نوعها, لا يدمر نفسه وحسب, وإنما يدمر الوطن, نعم الوطن, أليس هو الذي دمر أسرته, وجر عليها الويلات, وفرق شملها واستنفد رصيدها, فإذا كان هو من يعمل ذلك, فهو إذن قد دمر لبنة مهمة من لبنات الوطن, فالدول تقوم على شعوبها والشعوب ليسوا سوى مجموعة أسر, لهذا يكون المدمن أو المدمنة خطراً على الوطن ما يستدعي التصدي لهذا الخطر بالارتقاء بوعي المجتمع حتى يكون قادراً على تصحيح نفسه.
هذا يجعلنا أمام حاجة ملحة لنشوء مؤسسات مدنية تتولى مهام رعاية أسر المدنيين حفاظاً على تماسكها وإعادة حيويتها وتوجيه سلوكها باتجاه يخدمها ويخدم وطنها, وقبل ذلك وقايتها من الدخول في نفق الإدمان. وإذا ما عددنا الإدمان حالة عامة لا أسرة لها, فهذا يعني أن جميع الأسر بمختلف أنواعها مهددة بهذا الخطر, فلا الأسر الفقيرة تسلم منه, ولا الأسر الغنية, ولا الأسر المثقفة بمنأى عنه, ولا الأسر الأقل ثقافة, فالإدمان زائر شرس, لا يفرق بين ضحاياه ولا يعترف إلا بمن يطلبه حتى الموت.
الإدمان لا يدمر متعاطيه فحسب, وإنما يدمر كل من يتصل بالمتعاطي, لأنه يؤثّر على وظيفة أحد عناصر الأسرة فيتقاعس عن دوره داخل الأسرة ما يجعل البقية يتأثرون سلباً بسلوكه المنحرف, ويصبحون في حالة قلق من خطره, ومن تضييق منافذ العيش, وتعطيل كثير من موارد الأسرة, فالمتعاطي مشكلة كبرى وهو موجود مع أهله ومشكلة أكبر عندما يغيّبه السجن أو الموت.
هذا الأمر يستدعي الشد من أزر الجيل الجديد الذي يفكر بأسلوب المجتمعات المتقدمة ويسعى جاهداً لإنقاذ المجتمع من الأخطار الذي تواجهه, وتذليل كافة الإجراءات الإدارية والمالية حتى يؤدي دوره بالكامل تجاه مجتمعه, فهذا النوع من الأفكار في مجال الخدمة الاجتماعية, أو في مجال المؤسسات المدنية هو في واقع الأمر شريك أمني للدولة لا يستهان به باعتباره يعمل على بناء المجتمع الناضج الذي يشكل أرضية قوية لتحقيق الثروة البشرية المبدعة التي تسهم في مسيرة الدولة باتجاه التنمية والنمو.
nlp1975@gmail.com